Monday, March 18, 2013

كتاب:تأملات على ضفاف آيات



تأملات على ضفاف آيات

    تأليف
ماجد بن عبد الله الطريّف


المقدمة
الحمد لله بما حمد به نفسه في كتابه،والصلاة والسلام على نبينا وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن القرآن هو الكتاب الذي لا تنقضي عجائبه ، ولا تفنى غرائبه.  وهو مليء بالإشارات الدقيقة والمعاني العميقة التي لا تزال تنكشف في كل عصر من العصور ، فكم من ذخائر مدخرة في القرآن المعجزة الباقية على مر الدهور.
وقد ملئت كتب التفسير وغيرها بكثير من الدقائق اللطيفة التي لا تبلغ إلا بالتدبر والتأمل ، فالقرآن كالبحر الزاخر يرى الناظر إليه من الشاطئ شيئاً عظيماً فإذا غاص في أعماقه رأى ما لم يخطر بباله ، وهذا من أسرار القرآن وعظمته ولأجل هذا قال الله سبحانه
{ كتاب أنزلناه  إليك مبارك ليدبروا آياته  وليتذكروا  أولوا  الألباب }ص:29
وفي هذا الكتيب سأحاول أن أقدم شيئاً من تلك الدقائق والإشارات ،ولعله يتبعه - إن شاء الله- في المستقبل كتب أخرى فيها مزيد من التأملات .
                                       والله المستعان .

لن تحب في الله حتى تحب الله !
تأملات في قول الله تعالى { والذين آمنوا  أشد حباً لله }البقرة:165
كثيراً ما نسمع قول القائل : أحبتي في الله ،أو قوله إخوتي في الله. أو نسمع قول القائل : محبكم في الله فلان .
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله " ويقول صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان .. ( وذكر منهن ) أن تحب المرء لا تحبه            إلا في الله " .
ولكن حب العباد في الله لا يأتي إلا بعد أن يمتلئ القلب بحب الله ذاته سبحانه .
فالنفس الإنسانية مجبولة على أن تحب المبدأ ثم تحب كل ما يتعلق به ، فالإنسان إذا أحب علماً من العلوم مثلاً أحب المنتسبين إليه ، وإذا أحب قبيلته مثلاً أحب من ينتسب إليها .
وإذا أحب المرء حركة قومية أو ثورية أو علمية مثلاً أحب من يدعوا إليها ، وهكذا في كل أمر إذا أحب المرء المبدأ أدى به إلى حب كل من ينتسب إليه ، وإذا كان حبه للمبدأ غير صادق فلن يحب فيه ولن يبغض فيه .
ولهذا إذا كان الانتساب للدين ضعيفاً ، والانتساب للقبيلة قوياً غلب حب القبيلة حب الدين ، فأحب المرء أفراد قبيلته وتعصب لهم ، ولو خالفوا أهل دينه وتلك العصبية هي الحالقة التي تحلق الدين كما ورد في الحديث.
ولا مجال لرسوخ محبة المرء لأهل دينه في الله إلا إذا أحب العبد الله حباً يقدمه على كل حب ، حباً يؤنس وحشته ويملأ حياته .
والعبد يعرف قلبه فإذا ملأ حب الله جوانح فؤاده ، وقدم حب الله على كل حب ، فحينها سيجد نفسه منساقة إلى حب كل ما يرضي الله وإلى حب كل من يطيع الله ، ولو  كان من يطيع الله من أبعد الناس عنه .
وسيجد العبد إذا ملأ حب الله جوانح فؤاده أنه يبغض بشكل طبعي كل من يعصي الله ولو كان أقرب قريب ، بل لو كانت نفسه .
فإن المؤمن ينفر من نفسه إذا عصت الله ، وذلك أن المؤمن إذا ملأ حب الله جوانحه لا يحتمل أن يرى من يعصي ربه ولو كانت نفسه.
ولكن هذا الحب في الله والبغض في الله لا يأتي إلا بعد أن يحب العبد ربه حباً يقدمه على كل حب .
وما أكثر من يدعي هذا الحب ، وما أقل من يصدق فيه ، كما قال تعالى { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }(آل عمران:31)وما أعظم المنزلة أن تحب الله فيجبك الله .
ولكن حب العبد لله يحتاج إلى هذا المحك العظيم وهو الإتباع لرسول صلى الله عليه وسلم طاعة لله وبعداً عن معصيته .
فامتحن نفسك إذا دعيت للطاعة كيف إقبالها ؟ فإن أقبلت فتلك علامة حبها لله ، وأنها لا تعدل بحبه سبحانه وتعالى شيئاً من الدنيا ، وإن لم تقبل نفسك على الطاعة فتلك نفس لم تصدق في حبها لله ، فأنى لها أن  تظفر بحب الله لها .
وقد توعد الله سبحانه وتعالى من يعدل إلى حب شيء من الدنيا يقدمه على حب الله يقول تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين }التوبة:24
هذه أصناف متاع الدنيا وأصناف صوارفها ، فويل لمن صرفته دنياه عن حب مولاه .
ومن أحب الله فلن يفوته متاع الدنيا و له في الآخرة النعيم ، و رضوان الله العظيم ، ورؤية وجهه الكريم.
ومن أحب شيئاً من هذه الدنيا ، فقدمه على طاعة الله ، فهو يتخذ لله نداً ولهذا يقول سبحانه : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله ، والذين آمنوا أشد حباً لله} .
بل يصل الأمر بالإنسان إلى تأليه هواه وجعله رباً من دون الله ، يقول تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } الجاثية:23
فما أشقى الإنسان إذا صار عبداً لهواه. وما أسعد عبداً أحب الله ، فأحب في الله ، فأحبه الله .
وتذكر أخي دائماً حين تقول أحبتي في الله أو إخوتي في الله ، أنك لن تحب في الله حتى تحب الله حباً صادقاً ، فحب العباد في الله فرع عن الأصل والشجرة العظيمة التي هي حب الله .
فإذا سقطت تلك الشجرة العظيمة التي هي حب الله سقط الفرع الذي هو حب العباد في الله ، وإذا نمت تلك الشجرة العظيمة التي هي حب الله تفرع منها ولا بد أغصان محبة العباد في الله .
وأخيراً قال أحمد شوقي :
الحياة الحب ، والحب الحياة           وهو من سرحتها سر النواة
( السرحة: هي الشجرة الكبيرة )
وحقاً كما قال الشاعر ، الحياة الحب والحب الحياة ، ولكن ليس ذلك الحب أي حب، وإنما ذلكم الحب في الله ، فإن حب الله هو الحياة .
وفي الختام نسأل الله العظيم حبه ، وحب من يحبه ، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبه،إنه جواد كريم .


           الأَمثَال في القرآن
قال تعالى :{ و نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ، وهدىً و رحمة }النحل:89
ويقول وتعالى:{ولا يأتونك  بمثلٍ إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً}الفرقان:33
ومعنى المثل هنا:ما يورده المشركون من الأسئلة و الشبهات والاقتراحات المعينة كطلبهم في الآية التي قبلها {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة
كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا} سورة الفرقان :32
فالقرآن يأتي بالجواب الحق الثابت الذي يبطل ما أتوا به من الأمثال ويدمغه وهو أحسن إيضاحا (انظر تفسير فتح القدير 4/73 )
ومن الأشياء التي يحويها القرآن الكلمات الجامعة التي تقال على سبيل الحكمة السائرة في المناسبات المتنوعة ولهذا                                                                      قال سفيان بن عيينة- رحمه الله- وهو ممن عرف بالبراعة في فهم القرآن       وعلم التفسير قال:لا تأتونني بمثل من أمثال العرب مشهور إلا جئتكم بمثله من القرآن ...
قالوا : فأين في القرآن قول العرب" أعط أخاك تمرة ،فإن لم يرض فأعطه جمرة "؟ قال سفيان: أجده في قوله تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين }الزخرف:36
وهذا الخبر يظهر علم سفيان رحمه الله بالتفسير  وحسن الاستنباط ،ويدل على أن القرآن فيه من كل مثل ، ولكن لا يفطن لذلك إلا من أوتى فهم التنزيل وعلم التأويل .
وقد فكرت في نفسي لما قرأت خبر سفيان السالف فقالت لي نفسي:أين في القرآن هذا المثل " لا تضع البيض كله في سلة واحدة " وهو مثل صيني رائع ، و نهج اقتصادي بارع ،يدعوك ألا تجعل رأس مالك كله في سبيل واحدٍ فإذا ضاع المال من تلك الجهة  ضاع مالك  كله ، ولكن نوّع سبله تأمن عليه.
فقلت لنفسي :إنما قال سفيان رحمه الله : لا تأتونني بمثلٍ مشهور من أمثال العرب ، ولم يقل من أمثال الصين . ولكن سبحان من خلق البشر كلهم ، عربهم و عجمهم ،و أحاط بهم علما.و أما المثل فأجده في قوله تعالى على لسان نبيه يعقوب مخاطباً بنيه :{ يبني لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرقة ..} يوسف:67
 وفي تمام الآية زيادة رائعة تنبئ أن على المرء فعل السبب ولكن العبرة بحفظ الله ؛ فإنه ربما كسر البيض وقد فرق ، و ربما حفظ وهو في سلة واحدة يقول الله تعالى على لسان نبيه يعقوب ــ عليه السلام ــ:{ وما أغنى عنكم من الله من شيء ، إن الحكم إلا لله عليه توكلت و عليه فليتوكل المتوكلون}...
فهذا هو المثل و زيادة . و صدق سبحانه إذ يقول { و نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء ، وهدىً و رحمة } (النحل:89)
وهذه دعوة لتأمل كتاب الله من خلال الأمثال ، فالأمثال خلاصة تجارب الشعوب وحكمها .. والله قد بين لنا في كتابه من علم كل شيء ، فلو ربطنا بين الأمثال و آيات القرآن لكان ذلك تعويداً للأنفس على تدبر القرآن و استنباط العبر منه.  والله سبحانه و تعالى يقول :{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} محمد:24


             تأملات في قوله تعالى {من فوقهم}
قال تعالى { قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون }النحل : 26
المتأمل في هذه الآية يتساءل: لماذا ذكر في الآية أن السقف خر عليهم من فوقهم؟ ومعلوم أن السقف إذا خر فمعنى ذلك أنه سقط من فوق ، فإن السقف في أصل بنائه مرتفع  ثم قد ذكر في الآية أنه خر أي سقط، والسقوط لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل   و من فوق إلى تحت، هذا كله معلوم بمجرد ذكر السقف وأنه خر فما الداعي إلى ذكر قوله تعالى في الآية { من فوقهم}؟
أشار إلى جواب هذا بعضُ المفسرين وذكروا أن الحكمة من قوله تعالى في الآية: { من فوقهم} ليس مجرد ذكر أن السقف سقط من فوق ولكن التأكيد على أن سقف بنائهم الذي بنوه قد سقط عليهم وهم تحته وهذا أشد في العقوبة ، فإن الله سبحانه لم يكتف بأن أتى بنيانهم من القواعد فأسقط عليهم سقف بنائهم ، بل أسقطه عليهم وهم تحته .
 وهكذا من أراد مكر السوء إذا شيد بنيان مكره لم تكن عقوبته أن يهدم بناؤه ويسقط سقفه وحسب ، بل أن يسقط عليه وهو تحته فيكون فيه هلاكه فيجعل الله تدبيره تدميراً عليه .
وفي هذا بيان لحكمة الله في تدبيره ، وبيان لبلاغة آياته سبحانه وتعالى.          

              تأملات دقيقة في آيات قصة موسى والخضر
يقول الله تعالى في سورة الكهف في سياق قصة موسى والخضر -عليهما السلام- على لسان الخضر :{ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها }الكهف:79
ويقول في شأن الغلام :{ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين } إلى أن يقول { فأردنا أن يبدلهما ربهما .... }الكهف:81
 ويقول في شأن الجدار واليتيمين:{فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما} الكهف:82
إن القارئ لهذه الآيات يلحظ التنويع في التعبير في الآيات الثلاث ففي الأولى { فأردت}وفي الثانية { فأردنا} وفي الثالثة { فأراد ربك }
ولا شك أن لهذا سراً وحكمة فما الحكمة منه يا ترى ؟
ذكر العلماء أن سبب التنويع هنا هو أن الأمر المراد في الآية الأولى هو :عيب السفينة وهو وإن كان في مآله خيرا إلا أنه في ظاهره شر مكروه ؛ولذا ناسب أن يتلطف الخضر فينسب إرادته إلى نفسه وهذا من التأدب مع الله سبحانه .
 وأما في الآية الثالثة في شأن الجدار فالأمر المراد خير ظاهر وهو بلوغ الأشد واستخراج الكنز ولذا نسبه إلى الله جل جلاله .
 وأما في الآية الثانية في شأن الغلام فالأمر المراد وهو إبدال الغلام بخير منه يتضمن أمرين هما :1-إهلاك الغلام الأول الكافر 2- رزق الأبوين الصالحين خيراً منه .فالأمر الأول في ظاهره شر مكروه وإن كان مآله للخير والأمر الثاني أمر خير ولأن الإبدال يتضمن الأمرين نسبت الإرادة للطرفين ــ  لله وللخضر .....
وهذا التنزيه لله عن نسبة الشر إليه أمر ملحوظ كما قال الله تعالى في سورة الجن على لسان الجن { وأنا لا ندري أشراً أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً }(سورة الجن:10) فنسبوا إرادة الرشد إلى الله ونزهوه عن نسبة الشر إليه ــ سبحانه وتعالى ــ فجعلوا الفعل في إرادة الشر للمجهول { أريد } مع أن الخير والشر من تقدير الله وإرادته الكونية .
هذا هو خلاصة توجيه بعض العلماء للسر في تنويع الأساليب بين الآيات الثلاث من سورة الكهف  وهو توجيه حسن ، إلا أنه قد يعترض عليه بأن في الآية الثانية في شأن الغلام إذا كان الفعل وهو إرادة الإبدال يتضمن أمرين : شراً في ظاهره وخيراً فلا يناسب نسبته المشتركة لله وللعبد        {فأردنا}إذ في النسبة المشتركة إشعار بعدم تنزيه أي من الطرفين عن أي من الفعلين كما لو قلت مثلاً :إن محمداً وعلياً أرادا السرقة والصدقة ، فلو كان أحدهما أراد السرقة والأخر أراد الصدقة فإن الجمع في اللفظ هنا غير مستحسن فكذلك في الآية إن كان يراد التنزيه فلا يناسب النسبة المشتركة{فأردنا}.
 ولعل توجيها آخر أحسن من التوجيه المتقدم وهو القول بأن السر في التنويع بين الآيات هو:أن الفعل المراد في الآية الأولى هو :عيب السفينة وهذا في مقدور الخضر وفي استطاعته إنفاذ مشيئته ، وهو المباشر للعمل ولذلك نسب الفعل لنفسه فقال { فأردت أن أعيبها}.
وأما في الآية الثانية في شأن الغلام فإن الإبدال يتضمن أمرين :أحدهما قتل الغلام وهو في مقدور الخضر ،وأما الآخر وهو رزق الوالدين بولد خير منه فهذا لا قدرة للخضر عليه ، ولما كان الإبدال يتضمن الأمرين جعلت الإرادة في الآية مشتركة فقال :{ فأردنا}.
وأما الآية الثالثة في شأن الجدار فإن الأمر المراد هو بلوغ اليتيمين أشدهما ، واستخراجهما كنزهما وهذا أمر الله سبحانه وفي قدرته وحده لا يملكه الخضر في المستقبل ولا يد له فيه ، ولذا ناسب أن يخلص نسبة الإرادة لله سبحانه وتعالى  فيقول { فأراد بك } وهذا التوجيه عرض لي في الآيات ، وقد وجدت من المفسرين من أشار إليه حيث أشار ابن كثير ــ رحمه الله ــ إلى هذا التوجيه إشارة فقال في تفسير القرآن العظيم ( 3/99) وقوله       { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما }هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى لأن بلوغهما الحلم لايقدر عليه إلا الله،وقال في الغلام{فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة } وقال في السفينة { فأردت أن أعيبها}.والله أعلم .
                والحمد لله رب العالمين .









                          مثال من التناسب القرآني
قال الله سبحانه و تعالى{إن لك ألا تجوع  فيها ولا تعرى  وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} (سورة طه : 118 ، 119 )
هذا ما خاطب به الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام حين أسكنه الجنة فقد تكفل الله لآدم بهذه الخصال الأربع فهو في الجنة آمن من الجوع والعري والظمأ والضحى ( ومعنى قوله تضحى أي تصيبك شمس الضحى فتحس بالحرارة ) وعند النظر في هذه الخصال فإن المدقق في النظر قد يتساءل:ما هو السر في الاقترانبين الجوع والعري وبين             الظمأ والضحى؟ مع أن المتبادر هو اقتران الجوع بالظمأ والعري بالضحى ، وإنما كان المتبادر اقتران الجوع بالظمأ لأنهما أمران باطنان ، بينما العري والضحى أمران ظاهران .
ويجاب على هذا التساؤل بأن في اقتران الجوع بالعري والظمأ بالضحى معنى أدق وأنسب يقول ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد 1/240 : من له غوص في دقائق المعاني يتجاوز نظره قالب اللفظ إلى لب المعنى ، والواقف مع الألفاظ مقصور على الزينة اللفظية فتأمل قوله تعالى : {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } كيف قابل الجوع بالعري والظمأ بالضحى ، والواقف مع القالب ربما يخيل إليه أن الجوع يقابل بالظمأ والعري بالضحى والداخل إلى بلد المعنى يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة لأن الجوع ألم الباطن والعرى ألم الظاهر فهما متناسبان في المعنى وكذلك الظمأ مع الضحى لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن والضحى موجب لحرارة الظاهر ا. هــ 
فابن القيم رحمه الله يوضح أن الجوع اقترن بالعري لأن الجوع ألم الباطن والعري ألم الظاهر فكلاهما تجرد ولذلك ناسب الاقتران بينهما ...
وأما الظمأ والضحى فإن الظمأ موجب لحرارة الباطن ، والضحى موجب لحرارة الظاهر ، فكلاهما موجبان للحرارة ولذلك ناسب الاقتران بينهما.
ويمكن الاستشهاد لهذا ببيت واحد واضح قريب المتناول وهو قول أبي الطيب المتنبي :
باد هواك صبرت أم لم تصبرا   *  وبكاك إن لم يجر دمعك أو جرى
فقد انتقد المتنبي حين أنشد هذا البيت بأنه خالف بين سبك الشطرين ففي الشطر الأول ابتدأ بالإثبات ( صبرت ) ثم ثني بالنفي ( لم تصبرا ) وفي الشطر الثاني ابتدأ بالنفي ( لم يجر دمعك ) ثم أتى بالإثبات ( جرى ) فخالف بين الشطرين بأن قدم الإثبات في الشطر الأول وقدم النفي في الشطر الثاني ، وقد رد المتنبي هذا بأنه إن كان خالف بين الشطرين من حيث اللفظ فقد وفق بينهما من حيث المعنى وذلك أن من صبر لم يجر دمعه ومن لم يصبر جرى دمعه فقدم الصبر وعدم جريان الدمع لأنهما متناسبان من حيث المعنى الباطن وإن اختلفا من حيث الظاهر واللفظ إثباتاً ونفياً وكذلك الآية فإنه قد يظهر أن الجوع والعري غير متناسبين، والظمأ والضحى غير متناسبين ولكن هذا في الظاهر وأما في الباطن فهما أشد تناسباً كما سلف توضيحه في كلام ابن القيم رحمه الله .
 ويمكن أن نضيف هنا سبباً أخر للجمع بين الجوع والعري وبين الظمأ والضحى وهو أيضاً سبب في تقديم ذكر الجوع والعري وتأخير الظمأ والضحى : فالملاحظ في الآية أنها ابتدأت بذكر الجوع والعري ثم ذكرت الظمأ والضحى ، وقد يكون السبب في هذا ــ والله أعلم ــ هو مزيد الاهتمام بهاتين الخصلتين لتعلق الجوع والعري بابتلاء آدم عليه السلام وذلك إن الله سبحانه وتعالى حين أسكن آدم الجنة ما نهاه عن شيء سوى الأكل من الشجرة ثم ذكر ما أنعم الله عليه في الجنة من عدم الجوع والعري والظمأ والضحى ، فابتدأ بالجوع لأن آدم ابتلي بالشجرة فكونه لا يجوع في الجنة أدعى وأحث له على عدم ألأكل من الشجرة لأنه في غنى عنها ، فإن أكل منها فكونه لا يجوع أشد في  التوبيخ له لأنه أكل منها مع أمنه من الحاجة .ثم إن معصية آدم بالأكل من الشجرة ستسبب له الخروج من الجنة والوقوع بالجوع ،فهو بالأكل تسبب لنفسه بالجوع في الدنيا ولذلك ناسب أن تبتدئ الآية بذكر نعمة الله على آدم بعدم الجوع في الجنة.
وأما ذكر العري بعد ذلك مباشرة فلما فيه من التعلق بابتلاء آدم فإن هناك نوع اقتران بين الجوع والعري وذلك أن أكل آدم من الشجرة سبب له العري مباشرة ، كما قال تعالى في تمام الآيات في سورة طه : {فأكلا منها فبدت  لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة }  ( طه : 121)        فهناك اقتران مباشر بين الأكل والعري ولذلك ناسب ذكر العري بعد الجوع في الآية وناسب أن يمتن الله على آدم بنعمة عدم العري في الجنة لأن أكله من الشجرة سيسلبه هذه النعمة مباشرة .
وهذا التوجيه في تقديم الجوع والعري واقترانهما وتعلق ذلك بابتلاء آدم عليه السلام لم أجد من المفسرين من أشار إليه ولكن تمام الآيات في سورة طه يشعر به. ثم إنه يشهد له قوله تعالى في سورة الأعراف آية20      { فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما } فالشيطان إنما يوسوس لهما ليأكلا من الشجرة ولكن الآية تشير إلى العري في هذا السياق لأنه سيعقب الأكل من الشجرة مباشرة.
                                    والله أعلم .






        تأملات في قوله تعالى { إذ قال لهم شعيب }
قال تعالى{كذب أصحاب الأيكة المرسلين * إذ قال لهم شعيب ألا تتقون }الشعراء177
في هذه الآية استفسار،فعندما نتأمل سياق الآيات في سورة الشعراء نرى أنه عند ذكر الأمم الأخرى من قوم نوح مروراً بعاد وثمود وقوم لوط نرى التعبير بقول { إذ قال لهم أخوهم}  ثم يذكر اسم النبي عليه السلام فمثلاً في قوم نوح قال تعالى { كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون} وهكذا في جميع الأمم التي ذكرت بعدهم ،إلا في ذكر قوم شعيب فإنه لا يذكر كلمة أخوهم وهذا تغيير غريب يحتاج إلى نظر لمعرفة السر ، لاسيما إذا علمنا أنه في سورة هود لم يحصل تغيير فذكر الأمم وأن رسولهم أخوهم ومنهم قوم شعيب فقال تعالى في سورة هود آية84:              { وإلى مدين أخاهم   شعيبا }  فلماذا في سورة الشعراء وحدها عند ذكر قوم شعيب لم يذكر أنه أخوهم ؟!
أجاب ابن كثير رحمه الله عن هذا الإشكال بجواب حسن فذكر في تفسيره عند هذا الموضع من سورة الشعراء أنه لم يقل هنا أخوهم شعيب لأنهم نسبوا إلى عباده الأيكة وهي شجرة كبيرة وقيل شجر ملتف كانوا يعبدونها فلهذا لما قال {كذب أصحاب الأيكة المرسلين }لم يقل : إذ قال لهم أخوهم شعيب وإنما قال {إذ قال لهم شعيب }فقطع نسب الأخوة بينهم تنزيهاً لشعيب عليه السلام أن يشاركهم في النسبة إلى الشجرة التي عبدوها من دون الله .
قال ابن كثير رحمه الله " ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة ــ أي المعنى الدقيق ــ فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين فزعم أن شعيباً بعثه الله إلى أمتين . ثم قال ابن كثير : والصحيح أنهم أمه واحدة وصفوا في كل مقام بشيء ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء الكيل والميزان كما في قصة مدين سواء بسواء فدل ذلك على أنهما أمة واحدة". والله أعلم  
تأملات في قوله تعالى {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤها  وفتحت أبوابها}الزمر:73
هذه الآية وردت في سورة الزمر في ذكر نعيم المتقين فإنهم إذا جاؤا إلى الجنة تفتح لهم أبوابها ولكن الملاحظ أنه في الآيات قبلها عند ذكر سوق الذين كفروا إلى النار أن الله سبحانه وتعالى قال:{وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاؤها فتحت أبوابها}بدون واو.
فما السر في عدم ذكر الواو في حال أهل النار فقال: {فتحت أبوابها}بدون واو،وأما في سوق أهل الجنة فقال:{وفتحت أبوابها}بزيادة الواو؟
أجاب المفسرون عن هذا بأجوبة و الراجح أنه لم يذكر الواو في النار لأنها تفتح أبوابها مباشرة بمجرد وصول أهلها لها سرعة في عذابهم .
وأما في الجنة فزاد الواو لأن أبوابها لا تفتح مباشرة وإنما تفتح بعد شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك فصل بالواو فقال{وفتحت أبوابها}.
هذا هو الراجح في  زيادة الواو. ولكن من المفسرين من ذكر أقوالا أخرى فيها ضعف فمنهم من قال وهو قول ضعيف أن هذه واو الثمانية تذكر في القرآن عند الثمانية ولذلك قال تعالى في سورة الكهف {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} فذكرت الواو عند الثمانية فقط هكذا قال بعض المفسرين وهذا قول بعيد قال عنه ابن كثير رحمه الله :"ومن زعم أن الواو في قوله تعالى{وفتحت أبوابها} واو الثمانية واستدل به على أن أبواب الجنة ثمانية فقد أبعد النجعة وأغرق في النزع"(تفسير ابن كثير4/66)
إذا فلا أصل لواو الثمانية في القرآن .
 وأما آية سورة الكهف فالراجح أنه زاد الواو في الثمانية لتأكيد هذا القول وللفصل بين الفتية وكلبهم فهم سبعة وثامنهم كلبهم بخلاف من قال :ثلاثة رابعهم كلبهم ومن قال :خمسة سادسهم فهو يخلط بين الفتية وكلبهم ولذلك بعد ذكر من قال ثلاثة رابعهم كلبهم ومن قال خمسة سادسهم قال تعالى: {رجما بالغيب} ولم يقل ذلك بعد سبعة و ثامنهم كلبهم فدل على أن هذا هو عددهم الصحيح ولذلك كان ابن عباس ترجمان القرآن رضي الله عنه إذا قرأ قوله تعالى في تتمة الآية {ما يعلمهم إلا قليل} قال:"أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل كانوا سبعة"(تفسير ابن كثير2/78)
وهذه الآيات تدل على دقة القرآن وبلاغته فمجرد زيادة حرف الواو حصل به هذه الإشارات الدقيقة إلى هذه المعاني فسبحان من أحصى حروف القرآن ومعانيه وأنزله هداية للعالمين.











الخاتمة:   دعوة لتدبر القرآن الكريم       
الأمثلة الواردة فيما سلف من الصفحات إشارات إلى ما في القرآن من كنوز عظيمة مدخرة ،من تأمل وصل إلى شئ منها، وكلما أكثر المرء  من التأمل فتحت له كنوز أكثر وكما قال الشاعر:
وكم من عائب قولا صحيحا      *         وآفته  من  الفهم  السقيم
ولكن تأخذ الأفهام منه            *       على قدر القرائح  والعلوم    
وقد زخرت كتب التفسير وعلوم القرآن بكثير من النفائس المسطورة ولكن يبقى المزيد فهذا كتاب الله الذي لا تفنى عجائبه وهو خاتم الكتب المنزلة المهيمن على ما قبله من الكتب قال تعالى:{وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً  لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه}المائدة :48
قال الشاعر: الله أكبر إن دين محمد      *     وكتابه  أهدى  وأقوم  قيلا
            لا تذكر الكتب السوالف عنده     *    طلع الصباح فأطفئ القنديلا         
والقرآن هو الآية الباقية للنبي صلى الله عليه وسلم على مر الأزمان ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال :"مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
ولهذا حفظ الله وحيه المنزل وكتابه الخاتم وجعل الهداية لمن تأمل فيه .
ختاماً: قال تعالى:{أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها}محمد:24
     جعل الله القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، وحجة لنا  يوم  لقاء  ربنا
                                                    والحمد لله رب العالمين     
                        المحتويات
المقدمة                                                                2
سورة البقرة:{والذين آمنوا أشد حبا لله}                                3
سورة النحل:{ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ}الأمثال في القرآن       6
سورة النحل:{من فوقهم}                                                                                           8
سورة الكهف:قصة موسى والخضر                                   9
سورة طه:مثال من التناسب القرآني                                12
سورة الشعراء:{إذ قال لهم شعيب}                                 15
سورة الزمر:{حتى إذا جاؤها  وفتحت أبوابها}                          16
الخاتمة                                                                  18
                                                                                     
                    
                                      والحمد لله رب العالمين     

No comments:

Post a Comment