Thursday, April 11, 2013

سلامة القرآن من التحريف






مقدمة المركز
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف
الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله الطاهرين.

القرآن الكريم كتاب الله المنزّل على رسوله النبي الأمين 6 ، وهو دستور الإسلام الخالد ( لا يأتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيهِ ولا مِنْ خَلفِهِ ) ، وقد أجمع المسلمون على أنّه المصدر الأوّل في التشريع الإسلامي ، والمرجع الأساس في استقاء الفكر والعقيدة والنظم والمفاهيم الإسلامية ؛ ولذلك كلّه حرصَ الرسول الأعظم 6 على سلامة هذا القرآن وتبليغه كما أُنزل حرفاً بحرف وكلمة كلمة ، وكيف لا يحرص على ذلك ؟ وهو برهان نبوته ، ومعجزة الإسلام الخالدة.
فالظروف التي أحاطت بنزول القرآن الكريم تقتضي سلامته من مزعومة التحريف ؛ لأنَّ الرسول الأعظم 6 كان يأمر بتدوين النصّ القرآني أوَّلاً بأوَّلٍ ، وقد اتخذ كُتّاباً يكتبون الوحي حين نزوله ، وكان 6 يشرف بنفسه على وضع كلِّ آيةٍ في موضعها من السورة ، ولم يكتفِ بذلك ، بل كان يأمر باستظهار القرآن الكريم وتعلُّمِه لينضمَّ الاستظهار إلى التدوين في حفظ القرآن الكريم وسلامته.


هذا زيادة على حرص المسلمين وعنايتهم البالغة وتفانيهم من أجل أن لا تمتد إلى القرآن الكريم يد التغيير أو التبديل حتى ولو بحرف واحد ؛ لأنّه دستورهم المقدس ، وكتاب ربهم تعالى الذي خاطب فيه نبيهم الأكرم 6 بقوله تعالى : ( وَلَو تَقَوَّلَ عَلَينا بَعضَ الأقاوِيلِ * لاخذنا مِنهُ باليَمِينِ * ثم لَقَطعنَا مِنهُ الوَتِينَ ).
وقد صرّح أهل البيت : ـ الَّذين هم عدل الكتاب كما نطق الرسول الأكرم 6 في حديث الثقلين ـ بسلامة القرآن ، من الزيادة والنقصان ، وتابعهم على ذلك أئمة أعلام الشيعة ومحققو علماء أهل السنة ، وشذّ من شذّ لروايات لم تثبت ولم تصح سنداً ، وأمّا ما صحَّ منها فمؤول بوجه مقبول ، ومصروف عن ظاهره قطعاً ؛ لمخالفته الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على سلامة القرآن من الزيادة والنقصان.
وهذا الكتاب يتضمّن ـ على صغر حجمه ـ بحثاً موضوعيّاً وتحقيقاً شاملاً عن المسألة ، ويثبت ( سلامة القرآن من التحريف والزيادة والنقصان ) بالأدلة والبراهين المتقنة عند الفريقين ويعالج أهم الشبهات المثارة معالجة دقيقة موضوعية.
فإليك ـ عزيزي القارئ ـ يقدّم مركزنا اصداره الثاني هذا ، خدمةً للقرآن العظيم وإيفاءً بالعهد في تقديم الزاد الفكري الرصين.
والله وليّ التوفيق.
مركز الرسالة


( الحمدُ للهِ الّذي أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ وَلَم يَجْعَل لَهُ عِوَجاً * قَيِّماً لِيُنذِرَ بأساً شَدِيداً مِن لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ المُؤمِنِينَ الَّذِينَ يَعمَلُون الصَّالحاتِ أنَّ لَهُم أجْراً حَسَناً ) ( الكهف 18 : 1 ـ 2 ).
( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبيرٍ ) ( هود 11 : 1 ).
( لا يَأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيهِ وَلا مِن خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَميدٍ ) ( فصلت 41 : 42 ).
( ذلِكَ الكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ) ( البقرة 2 : 2 ).
( نَزَّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمينَ ) ( النحل 16 : 102 ).
( ما كانَ حَدِيثاً يُفْترَى وَلكِن تَصْدِيِقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفصِيلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْم يُؤمِنُونَ ) ( يوسف12 : 111 ).
وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على رسوله الذي أرسله بالهُدى ودين الحقّ ليُظهِرهُ على الدين كُلّه ولو كرِه المشركون ، وعلى أهل بيته المنتجبين ، حَمَلة القُرآن وقُرنائه إلى يوم الدين.
وبعد :
فإنّ القرآن الكريم الموجود بين أيدينا هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى


على نبيّه محمّد 6 للاعجاز والتحدّي ، وتعليم الأحكام ، وتمييز الحلال من الحرام ، وقد كان مجموعاً على عهد الوحي والنبوة على ما هو عليه الآن من عدد سوره وآياته ، وهو متواتر بجميع سوره وآياته وكلماته تواتراً قطعياً باتفاق كلمة مذاهب المسلمين وفرقهم.
وقد توهّم البعض وقوع التحريف في كتاب الله العزيز استناداً إلى جملة من الأخبار الظاهرة في نقص القرآن ، وهي إمّا أخبار غير معتبرة سنداً ، أو إنّها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، أو إنّها مؤوّلة بنحوٍ من الاعتبار ، وإلاّ فقد نصّ المحقون من علماء المسلمين على أن يُضْرَب بها الجِدار.


التحريف لغةً :
حرف الشيء : طرفه وجانبه ، وتحريفه : إمالته والعدول به عن موضعه إلى طرفٍ أو جانب. قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ ). ( الحج 22 : 11 ) قال الزمخشري : أي على طرفٍ من الدين لا في وسطه وقلبه ، وهذا مثلٌ لكونهم على قلقٍ واضطرابٍ في دينهم ، لا على سكونٍ وطمأنينة (1).
التحريف اصطلاحاً :
أمّا التحريف في الاِصطلاح فله معانٍ كثيرة :
منها : التحريف الترتيبي : أي نقل الآية من مكانها إلى مكان آخر ، سواء كان هذا النقل بتوقيف أو باجتهاد ، فلا خلاف في وقوعه ، إذ كم من آية مكّية بين آيات مدنيّة ، وبالعكس.
ومنها : التحريف المعنوي : ويراد به حمل اللفظ على معانٍ بعيدة عنه لم ترتبط بظاهره ، مع مخالفتها للمشهور من تفسيره ، وهذا النوع واقع في القرآن ، وذلك عن طريق تأويله من غير علم ، وهو محرّم بالإجماع
__________________
(1) الكشاف 3 : 146.


لقوله 6 : « من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار » (1) ، وهو من التفسير بالرأي المنهي عنه ، قال رسول الله 6 : « من فسَّر القرآن برأيه وأصاب الحق فقد أخطأ » (2) ، وهذا المعنى منحدر عن الأصل اللغوي لتحريف الكلام.
ومنها : التحريف اللفظي ، وهو على أقسام :
منها : التحريف بالزيادة والنقصان ، وهو على ثلاثة أنحاء :
أ ـ تحريف الحروف أو الحركات ، وهذا راجع إلى القراءات القرآنية ، وهو باطل إلاَّ في ألفاظ قليلة كقراءة قوله تعالى : ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُسِكُمْ وَأرْجُلَكُمْ ) (3) بكسر لفظة الأرجل ونصبها ، وغيرها ممّا لم يخالف أُصول العربية وقراءة جمهور المسلمين ، وورد به أثر صحيح.
ب ـ تحريف الكلمات ، وهو إمَّا أن يكون في أصل المصحف ، وهو باطل بالإجماع ، وإمَّا أن تكون زيادة لغرض الإيضاح لما عساه يشكل في فهم المراد من اللفظ ، وهو جائز بالاتفاق.
ج ـ تحريف الآيات أو السور ، وهو باطل بالإجماع (4).
1 ـ التحريف بالزيادة : بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بين أيدينا
__________________
(1) التبيان للطوسي 1 : 24 ، الإتقان للسيوطي 4 : 210.
(2) التبيان للطوسي 1 : 4.
(3) المائدة 5 : 6.
(4) توجد أنحاء أُخر من التحريف راجعة ـ بشكل أو بآخر ـ إلى ما ذكرناه. أُنظر : البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي : 215.


ليس من الكلام المنزل ، والتحريف بهذا المعنى باطلٌ بإجماع المسلمين ، بل هو ممّا عُلِم بطلانه بالضرورة ، لأنّه يعني أنّ بعض ما بين الدفّتين ليس من القرآن ، ممّا ينافي آيات التحدّي والاعجاز ، كقوله تعالى : ( قُل لئنِ اجتَمَعَتِ الاِنسُ والجِنُّ عَلَى أن يأتُوا بمِثْلِ هَذا القُرْآنِ لا يأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (1) ( لإسراء 17 : 88 ).
2 ـ التحريف بالنقص : بمعنى أنّ بعض المصحف الذي بين أيدينا لا يشتمل على جميع القرآن الذي نزل من السماء ، بأنْ يكون قد ضاع بعض القرآن على الناس إمّا عمداً ، أو نسياناً ، وقد يكون هذا البعض كلمةً أو آية أو سورة ، والتحريف بهذا المعنى هو موضوع البحث حيثُ ادّعى البعض وقوعه في القرآن الكريم استناداً إلى أحاديث هي بمجملها إمّا ضعيفة سنداً ، أو مؤولة بوجهٍ يُخْرِجها عن إفادة ذلك ، وإلاّ فهي أحاديثٌ وأخبارٌ مدسوسةٌ وباطلةٌ ، قد أعرض عنها محققو المسلمين على مرّ العصور ، على ما سيأتي بيانه في ثنايا هذا البحث.





إنّ مصونية القرآن الكريم من التحريف بمعنى النقيصة هي من الاَُمور البديهية الثابتة على صفحات الواقع التاريخي ، والتي لا تحتاج إلى مزيد استدلالٍ وتوضيحٍ وبيان ، حتّى إنّ بعض المنصفين من علماء وأساتذة غير المسلمين صرّحوا بعدم وقوع التحريف في القرآن الكريم ؛ فالاستاذ لوبلو يقول : « إنّ القرآن هو اليوم الكتاب الربّاني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير يذكر » (1).
ويقول السير وليام موير : « إنّ المصحف الذي جمعه عثمان قد تواتر انتقاله من يدٍ ليدٍ حتّى وصل إلينا بدون تحريفٍ ، وقد حُفِظ بعنايةٍ شديدةٍ بحيث لم يطرأ عليه أي تغييرٍ يُذكَر ، بل نستطيع القول أنّه لم يطرأ عليه أيّ تغييرٍ على الاطلاق في النسخ التي لا حصر لها والمتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة » (2). وبمثل ذلك صرّح بلاشير أيضاً (3).
وقد أستدلّ العُلماء المحقّقون على عدم وقوع التحريف في القرآن بجملة من الأدلة الحاسمة ، هي من القوّة والمتانة بحيث يسقط معها ما دلّ على التحريف بظاهره عن الاعتبار ، لو كان معتبراً ، ومهما بلغ في الكثرة ،
__________________
(1) تاريخ القرآن للصغير : 94 عن كتاب : المدخل إلى القرآن لمحمد عبدالله دراز : 39 ـ 40.
(2) تاريخ القرآن للصغير : 93.
(3) القرآن نزوله ، تدوينه ، ترجمته وتأثيره لبلاشير : 37.


وتدفع كلّ ما أُلصق بجلال وكرامة القرآن الكريم من زعم التحريف وتُفنّد القول بذلك وتُبطِله حتّى لو ذهب إليه الكثيرون فضلاً عن القلّة النادرة الشاذّة ، وفيما يلي نذكر أهمّها :
1 ـ حِفظ الله سبحانه للقرآن الكريم ، ولذا لم يتّفق لأمر تاريخي من بداهة البقاء مثلما اتّفق للقرآن الكريم ، فهو الكتاب السماوي الوحيد الذي تعهّدت المشيئة الإلهية ببقائه مصوناً من تلاعب أهل الأهواء ومن التحريف وإلى الأبد حيثُ قال تعالى : ( إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكرَ وإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر15 : 9 ).
فالمراد بالذكر ـ كما يقول المفسّرون ـ في هذه الآية : القرآن الكريم ، وصيانة القرآن من التحريف من أبرز مصاديق الحفظ المصُرّح به في هذه الآية ، ولولا أن تكفّل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم وصيانته عن الزيادة والنقصان لدُسّ فيه ما ليس منه ، كما دُسّ في الكتب المتقدّمة المنزلة من عند الله ، فلم يبقَ فيها سوى مادخل عليها من ركيك الكلام وباطل القول ، ولكن الكتاب الكريم قد نفى كلّ غريب ، وسلم من الشوائب والدخل ، فلم يبق إلاّ كلام الربّ سليماً صافياً محفوظاً.
2 ـ نفي الباطل بجميع أقسامه عن الكتاب الكريم بصريح قوله تعالى : ( وَإنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ * لا يأتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) ( فصلت 41 : 41 ـ 42 ).
والتحريف من أظهر مصاديق الباطل المذكور في الآية ، وعليه فالقرآن مصونٌ عن التحريف وعن أن تناله يد التغيير منذ نزوله وإلى يوم القيامة ، لأنّه تنزيلٌ من لدن حكيم حميد ، ويشهد لدخول التحريف في الباطل


الذي نفته الآية عن الكتاب ، أنّ الآية وصفت الكتاب بالعِزّة ، وعزّة الشيء تقتضي المحافظة عليه من التغيير والضياع والتلاعب ، ومن التصرف فيه بما يشينه ويحطّ من كرامته وإلى الأبد.
3 ـ قوله تعالى : ( إنَّ عَلَينا جَمعَهُ وقُرآنَهُ * فإذا قَرَأناهُ فَاتَّبِعْ قُرآنَهُ * ثُمَّ إنَّ عَلَينا بَيَانَهُ ) ( القيامة 75 : 17 ـ 19 ).
فعن ابن عباس وغيره : إنّ المعنى : إنّ علينا جَمْعَهُ وقُرآنَهُ عليك حتّى تحفظه ويمكنك تلاوته ، فلا تخف فوت شيءٍ منه (1).
4 ـ حديث الثقلين ، حيث تواتر من طرق الفريقين أنّ رسول الله 6 قال : « إنّي تاركٌ فيكم الثقلين : كتابُ الله ، وعترتي أهل بيتي ، ما إنّ تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي » (2).
وهذا يقتضي أن يكون القرآن الكريم مدوّناً في عهده 6 بجميع آياته وسوره حتّى يصحّ إطلاق اسم الكتاب عليه ، ويقتضي أيضاً بقاء القرآن كما كان عليه على عهده 6 إلى يوم القيامة لتتمّ به ـ وبالعترة ـ الهداية الأبدية للاَُمّة الإسلامية والبشرية جمعاء ماداموا متمسّكين بهما ، وإلاّ فلا معنى للأمر باتّباع القرآن والرجوع إليه والتمسّك به ، إذا كان الآمر
__________________
(1) مجمع البيان 10 : 600.
(2) هذا الحديث متواتر مشهور ، رواه الحفّاظ والمحدّثون عن نحو ثلاثين صحابياً ، وللحافظ ابن القيسراني ( 448 ـ 507 ه‍ ) كتاب في طرق هذا الحديث ، وقد بحث السيد علي الميلاني هذا الحديث سنداً ودلالة في ثلاثة أجزاء من كتابه ( نفحات الازهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار ) ، وأُنظر أهل البيت في المكتبة العربية رقم 298 للسيد عبدالعزيز الطباطبائي 2.


يعلم بأنّ قرآنه سيُحرّف ويبدّل في يومٍ ما !
5 ـ الأحاديث الآمرة بعرض الحديث على الكتاب ، ليُعرَف بذلك الصحيح منه فيُؤخذ به ، والسقيم فيُتْرَك ويُعْرَض عنه ، وهي كثيرة ، منها : حديث الإمام الصادق 7 ، قال : « خطب النبي 6 بمنى فقال : أيُّها الناس ، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب الله فأنا قُلتُه ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقُله » (1).
وعنه أيضاً بسندٍ صحيح ، قال 7 : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان ، فأعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردّوه » (2).
وهذه القاعدة تتنافى تماماً مع احتمال التحريف في كتاب الله ، لأنّ المعروض عليه يجب أن يكون مقطوعاً به ، لأنّه المقياس الفارق بين الحقّ والباطل ، فلا موضع للشكّ في نفس المقياس ، ولولا أنّ سور القرآن وآياته مصونة من التحريف ومحفوظة من النقصان منذ عصر الرسالة الأوّل وإلى الأبد ، لما كانت هذه القاعدة ، ولا أمكن الركون إليها والوثوق بها.
قال المحقق الكركي المتوفّى سنة 940 ه‍ في رسالته التي أفردها لنفي النقيصة عن القرآن الكريم : « لا يجوز أن يكون المراد بالكتاب المعروض عليه غير هذا المتواتر الذي بأيدينا وأيدي الناس ، وإلاّ لزم التكليف بما لا يطاق ، فقد وجب عرض الأخبار على هذا الكتاب ، وأخبار النقيصة إذا عُرِضت عليه كانت مخالفة له ، لدلالتها على أنّه ليس هو ، وأيّ تكذيب
__________________
(1) الكافي 1 : 69 / 5.
(2) الوسائل 27 : 118 / 62 ، 333 تحقيق مؤسسة آل البيت :.


يكون أشدّ من هذا » (1) !.
6 ـ إنّ ثبوت قرآنية كلّ سور القرآن وآياته ، لا يتمّ إلاّ بالتواتر القطعي منذ عهد الرسالة وإلى اليوم ، ممّا يقطع احتمال التحريف نهائياً ، لأنّ ما قيل بسقوطه من القرآن نقل إلينا بخبر الواحد ، وهو غير حجةٍ في ثبوت قرآنيته ، حتّى مع فرض صحّة إسناده.
قال الحرّ العاملي المتوفّى سنة 1104 ه‍ : « إنّ من تتبّع أحاديث أهل البيت :  ، وتصفّح التأريخ والآثار ، عَلِم علماً يقينياً أنّ القرآن قد بلغ أعلى درجات التواتر ، فقد حِفِظه الاَُلوف من الصحابة ونقله الاَُلوف ، وكان منذ عهده 6 مجموعاً مؤلّفاً ».
وقال الشيخ محمد جواد البلاغي المتوفّى سنة 1352 ه‍ : « ومن أجل تواتر القرآن الكريم بين عامّة المسلمين جيلاً بعد جيل ، استمرّت مادته وصورته وقراءته المتداولة على نحوٍ واحد » (2).
7 ـ إجماع العلماء على عدم التحريف إلاّ من لا اعتداد به ، كما صرّح بذلك المحقّق الكلباسي المتوفى سنة 1262 ه‍ بقوله : « انّ الروايات الدالّة على التحريف مخالفةٌ لاجماع الاَُمّة إلاّ من لا اعتداد به » (3).
وقال الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، المتوفّى سنة 1228 ه‍ في ( كشف
__________________
(1) أورده السيد محسن البغدادي في ( شرح الوافية ) عن المحقق الكركي ، أُنظر البرهان ، للميرزا مهدي البروجردي : 116 ـ 117.
(2) الفصول المهمة ـ للسيد شرف الدين : 166.
(3) آلاء الرحمن 1 : 29 ، المقدمة.
(4) البيان في تفسير القرآن : 234.


الغطاء ) : « جميع ما بين الدفّتين ممّا يُتلى كلام الله تعالى ، بالضرورة من المذهب ، بل الدين وإجماع المسلمين ، وأخبار النبي 6 والأئمة الطاهرين : ، وإن خالف بعض من لا يُعتدّ به » (1).
8 ـ إنّ التحريف ينافي كون القرآن المعجزة الكبرى الباقية أبد الدهر.
قال العلاّمة الحلّي المتوفّى سنة 726 ه‍ : « إنّ القول بالتحريف يوجب التطرّق إلى معجزة رسول الله 6 المنقولة بالتواتر » (2). وذلك لفوات المعنى بالتحريف ، ولأنّ مدار الإعجاز هو الفصاحة والبلاغة الدائرتان مدار المعنى ، وبالنتيجة لا إعجاز حينما يوجد التحريف. فاحتمال الزيادة أو التبديل باطل ، لأنّه يستدعي أن يكون باستطاعة البشر إتيان ما يماثل القرآن ، وهو مناقض لقوله تعالى : ( وَإن كُنْتُم في رَيْبٍ ممّا نَزَّلنا عَلى عَبْدِنا فأتُوا بسورَةٍ من مِثْلِهِ ) ( البقرة 2 : 23 ) ولغيرها من آيات التحدي. وكذلك احتمال النقص بإسقاط كلمة أو كلمات ضمن جملةٍ واحدةٍ منتظمةٍ في أُسلوب بلاغي بديع ، فإنّ حذف كلمات منها سوف يؤدّي إلى إخلال في نظمها ، ويذهب بروعتها الأولى ، ولايَدَع مجالاً للتحدّي بها.
9 ـ ثبوت كون القرآن الكريم مجموعاً على عهد الرسول الأعظم 6 ، كما يدلّ على ذلك كثيرٌ من الأخبار في كتب الفريقين ، حيث كان 6 يأمر أصحابه بقراءة القرآن وتدبّره وحفظه ، وعرض ما يُروى عنه 6 عليه ، كما أنّ جماعة من الصحابة ختموا القرآن على عهده وتلوه وحفظوه ، وأنّ جبرئيل 7 كان يعارضه 6 بالقرآن كلّ عامٍ
__________________
(1) كشف الغطاء : 298.
(2) أجوبة المسائل المهناوية : 121.


مرة ، وقد عارضه به عام وفاته مرتين ، وهذا الدليل يُسقِط جميع مزاعم القائلين بالتحريف والتغيير ، وما تذرّعوا به من أنّ كيفية جمع القرآن ومراحل ذلك الجمع ، تستلزم في العادة وقوع هذا التحريف والتغيير فيه ؛ وسنأتي على تفصيل ذلك في موضوع جمع القرآن بإذن الله تعالى.
10 ـ اهتمام النبي 6 والمسلمين بالقرآن ، فقد كان حريصاً على نشر سور القرآن بين المسلمين بمجرد نزولها ، مؤكّداً عليهم حفظها ودراستها وتعلّمها ، مبيّناً فضل ذلك وثوابه وفوائده في الدنيا والآخرة ، وقد بذل المسلمون عناية فائقة واهتماماً متواصلاً بكلام الله المجيد بشكل لم يسبق له مثيل في الكتب السماوية السابقة ، فكان كلّما نزل شيءٌ من القرآن هَفَت إليه القلوب ، وانشرحت له الصدور ، وهَبْ المسلمون إلى حفظه وتلاوته ، بما امتازوا به من قُوّة حافظة فطرية ، لأنّ شعار الإسلام وسمة المسلم حينئذٍ هو التجمّل والتكمّل بحفظ القرآن الكريم ، معجزة النبوّة الخالدة ، ومرجع الأحكام الشرعية ، واستمروّا على ذلك حتّى صاروا منذ صدر الإسلام يُعَدّون بالاَُلوف وعشراتها ومئاتها ، وكلّهم من حَمَلة القرآن وحُفّاظه وكُتّابه ، فكيف يُتَصوّر سقوط شيءٍ منه والحال هذه ؟!
11 ـ دقّة وتحرّي المسلمين لأي طارىءٍ جديدٍ في القران ، حيثُ إنّ العناية قد اشتدّت ، والدواعي قد توفّرت لحفظ القرآن وحراسته حتّى في حروفه وحركاته ، ويكفي أن نذكر أنّ عثمان حينما كتب المصاحف ، أراد حذف حرف الواو من ( والَّذِينَ ) في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَها في سَبِيلِ اللهِ ... ) ( التوبة 9 : 34 ). فقال أُبيّ : لتلحقنّها أو


لأضعنّ سيفي على عاتقي ؛ فألحقوها (1).
وروي أيضاً أنّ عمر بن الخطّاب قرأ ( والسَّابقُونَ الاولُونَ مِن المُهاجِرينَ وَالأنْصَار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم باحْسَانٍ ) ( التوبة 9 : 100 ) فرفع ( الانصار ) ولم يلحق الواو في ( الذين ) فقال له زيد بن ثابت : ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم باحْسَانٍ ) ! فقال عمر : ( الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم باحْسَانٍ ). فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم. فقال عمر : ائتوني بأُبيّ بن كعب ، فأتاه فسأله عن ذلك ، فقال أُبيّ : ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهم باحْسَانٍ ) فقال عمر : فنعم ، إذن نتابع أُبيّاً (2). فإذا كان الخليفة لا يستطيع أن يحذف حرفاً ، فهل يجرؤ غيره على التصرّف بزيادةٍ أو حذفِ آياتٍ أو سورٍ من القرآن وتحريفها ؟!
12 ـ ويمنع من دعوى التحريف ، الواقع التاريخي أيضاً ، فإنّه إن كان التحريف في زمان النبي 6 فهو غير معقول بعد أن كان يشرف بنفسه على كتابته وحفظه وتعليمه ، ويُعْرَض عليه مرات عديدة.
وإنّ كان بعد زمانه 6 وعلى يد السلطة الحاكمة ، أو على يد غيرها ، فلم يكن يسع أمير المؤمنين 7 والخيرة من صحابة الرسول 6 السكوت على هذا الأمر الخطير الذي يمسّ أساس الإسلام ، ويأتي على بنيانه من القواعد ، ولو كان ذلك لاحتجّ به الممتنعون عن بيعة أبي بكر وعمر والمعترضون عليهما في أمر الخلافة ، كسعد بن عبادة وأصحابه ، ولكان على أمير المؤمنين 7 وسائر الصحابة أن يُظْهِروا القرآن الحقيقي ، ويبيّنوا مواضع التحريف في هذا الموجود وإن حدث ما حدث ، لكنّنا لم
__________________
(1) الدرّ المنثور 4 : 179.
(2) تفسير الطبري 11 : 7 ، الدر المنثور 4 : 268.


نجد ذكراً لذلك ، لا في خطبة أمير المؤمنين 7 المعروفة بالشقشقية ، ولا في غيرها من خُطبَهِ وكلماته وكتبه التي اعترض بها على من تقدّمه ، ولا في خطبة الزهراء 3 المعروفة بمحضر أبي بكر ، كما لم نجد أحداً من الصحابة أو من غيرهم ، قد طالبهما بإرجاع القرآن إلى أصله الذي كان يُقْرَأ به في زمان النبي 6 أو نبّه على حدوث التحريف ومواطنه ، وفي ترك ذِكر ذلك دلالةٌ قطعيةٌ على عدم التحريف.
أمّا دعوى وقوع التحريف في زمن عثمان ، فهو أمر في غاية البُعد والصعوبة ، لأنّ القرآن في زمانه كان قد انتشر وشاع في مختلف أرجاء البلاد ، وكثر حُفّاظه وقُرّاؤه ، وإنّ أقلّ مساسٍ بحرمة القرآن لسوف يُثير الناس ضدّه ، ويُوجِب الطعن عليه وإدانته بشكلٍ قويّ ومعلنٍ ، ولا سيما من الثائرين عليه الذين جاهروا بإدانته فيما هو أقلّ أهميةً وخطراً بكثير من التحريف ، لكنّنا لم نسمع أحداً طعن عليه في ذلك ، فهل خفيت هذه الآيات أو السور التي يُدّعى سقوطها من القرآن ، على عامّة المسلمين ، ولم يطّلع عليها سوى أفراد قلائل ؟!
ولو كان ذلك لكان على أمير المؤمنين 7 إظهار هذا الأمر ، وإرجاع الناس إلى القرآن الحقيقي بعد أن صار خليفةً وحاكماً ، ولم يعد ثمّة ما يمنع من ذلك ، وليس عليه شيء يُنْتَقَد به ، بل ولكان ذلك أظهر لحُجّته على الثائرين بدم عثمان. فكيف صحّ منه 7 وهو الرجل القويّ الذي فقأ عين الفتنة أن يهمل هذا الأمر الخطير ، وهو الذي أصرّ على إرجاع القطائع التي أقطعها عثمان ، وقال في خطبةٍ له 7 : « والله لو وجدته قد تُزوِّج به النساء وُملِك به الإماء لرددته ، فانّ في العدل سَعَة ، ومن ضاق عليه العدل


فالجور عليه أضيق » (1). مع أنّ ذلك أقلّ أهمية وخطورة من أمر تحريف القرآن بكثير ؟! إذن فإمضاؤه 7 للقرآن الموجود في عصره دليلٌ قاطعٌ على عدم وقوع التحريف فيه.
13 ـ اهتمام أهل البيت : البالغ في القرآن الكريم وحثُّ أصحابهم على تلاوة القرآن الكريم وختمه ، وبيانهم : لمنزلة قارىء القرآن تارة ، وفضائل القرآن تارة أُخرى ، كُلّ ذلك يدلُّ على نفي التحريف ، لعدم توجّه مثل هذه العناية إلى كتاب محرّف.
14 ـ اعتقاد الكل بكون القرآن حجّة بالغة ينافي التحريف من كلِّ وجه ، ولا يعقل اتخاذ ماهو محرّف حجة ، ولو فرض حصول التحريف لسقط الاستدلال به لاحتمال التحريف بالدليل ، ولا يوجد فرد واحد قط استدل بالقرآن وأشكل عليه آخر بتحريف الدليل.
15 ـ وأخيراً فإنّ صلاة الإمامية بمجرّدها دليلٌ على نفي التحريف في كتاب الله العزيز ؛ لأنّهم يوجبون بعد فاتحة الكتاب ـ في كلِّ من الركعة الأولى والركعة الثانية من الفرائض الخمس ـ سورةً واحدةً تامّة غير الفاتحة من سائر السور التي بين الدفتين ، وفقههم صريح بذلك ، فلولا أنّ سور القرآن بأجمعها كانت في زمن النبي 6 على ما هي الآن عليه في الكيفية والكمية ما تسنّى لهم هذا القول ، ولا أمكن أن يقوم لهم عليه دليل. ولو كانوا يعتقدون بوجود سورٍ ساقطة عن القرآن الكريم لنصّوا على جواز القراءة بها ، ولما اشترطوا في السورة التي بعد الفاتحة أن تكون من وراء القرآن التي بين الدفّتين.
__________________
(1) نهج البلاغة ـ صبحي الصالح : 57 الخطبة 15.


إنّ المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم ، والمتسالم عليه بينهم ، هو القول بعدم التحريف في القرآن الكريم ، وقد نصّوا على أنّ الذي بين الدفّتين هو جميع القرآن المُنْزَل على النبيّ الأكرم 6 دون زيادة أو نقصان ، ومن الواضح أنّه لا يجوز إسناد عقيدةٍ أو قولٍ إلى طائفةٍ من الطوائف إلاّ على ضوء كلمات أكابر علماء تلك الطائفة ، وباعتماد مصادرها المعتبرة ، وفيما يلي نقدّم نماذج من أقوال أئمة الشيعة الإمامية منذ القرون الاُولى وإلى الآن ، لتتّضح عقيدتهم في هذه المسألة بشكل جلي :
1 ـ يقول الإمام الشيخ الصدوق ، محمّد بن علي بن بابويه القمي ، المتوفّى سنة 381 ه‍ في كتاب ( الاعتقادات ) : « اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه 6 هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك ، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة .. ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب » (1).
2 ـ ويقول الإمام الشيخ المفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، المتوفّى سنة 413 ه‍ في ( أوائل المقالات ) : « قال جماعة من أهل الإمامة : إنّه لم ينقص من كَلِمة ولا من آية ولا من سورة ، ولكن حُذِف ما كان مثبتاً في
__________________
(1) الاعتقادات : 93.


مصحف أمير المؤمنين 7 من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز ، وعندي أنّ هذا القول أشبه ـ أي أقرب في النظر ـ مِن مقال من أدّعى نقصان كَلِمٍ من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل » (1).
وفي ( أجوبة المسائل الروية ) ، قال : « فان قال قائل : كيف يصحّ القول بأنّ الذي بين الدفّتين هو كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة فيه ولا نقصان ، وأنتم تروون عن الأئمة : أنّهم قرءوا « كنتم خير أئمّة أُخرجت للناس » ، « وكذلك جعلناكم أئمّة وسطاً ». وقرءوا « يسألونك الأنفال ». وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس ؟
قيل له : إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يُقْطَع على الله تعالى بصحّتها ، فلذلك وقفنا فيها ، ولم نعدل عمّا في المصحف الظاهر ، على ما أُمِرنا به (2) حسب ما بيّناه مع أنّه لا يُنْكر أن تأتي القراءة على وجهين منزلين ، أحدهما : ما تضمّنه المصحف ، والثاني : ما جاء به الخبر ، كما يعترف به مخالفونا من نزول القرآن على أوجهٍ شتّى » (3).
3 ـ ويقول الإمام الشريف المرتضى ، عليّ بن الحسين الموسوي ، المتوفّى سنة 436 ه‍ في ( المسائل الطرابلسيات ) : « إنّ العلم بصحّة نقل القرآن ، كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام ، والكتب
__________________
(1) أوائل المقالات : 55.
(2) روي عن الصادق 7 أنه قال : « اقرءوا كما عُلّمتم ... » ، وقال 7 : « اقرءُوا كما يقرأ الناس ».
(3) المسائل الروية : 83 تحقيق الاستاذ صائب عبدالحميد.


المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإنّ العناية اشتدّت ، والدواعي توفرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدّ لم يَبْلُغه في ما ذكرناه ؛ لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتّى عرفوا كلّ شيءٍ اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصاً مع العناية الصادقة والضبط الشديد ؟!
وقال أيضاً : إنّ العلم بتفضيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما عُلِم ضرورةً من الكتب المصنّفة ككتابي سيبويه والمزني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها ، حتّى لو أنّ مُدْخِلاً أدخل في كتاب سيبويه باباً ليس من الكتاب لُعرِف ومُيّز ، وعُلِم أنّه مُلْحَقٌ وليس من أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني ، ومعلومٌ أنّ العناية بنقل القرآن وضبطهِ أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء ».
وذكر : « أنّ من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضافٌ إلى قومٍ من أصحاب الحديث ، نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته » (1).
وذكر ابن حزم أنّ الشريف المرتضى كان يُنكر من زعم أنّ القرآن بُدّل ، أو زيد فيه ، أو نُقِص منه ، ويكفّر من قاله ، وكذلك صاحباه أبو يعلى
__________________
(1) مجمع البيان 1 : 83.


الطوسي وأبو القاسم الرازي (1).
4 ـ ويقول الإمام الشيخ الطوسي ، محمد بن الحسن ، المعروف بشيخ الطائفة ، المتوفّى سنة 460 ه‍ في مقدمة تفسيره ( التبيان ) : « المقصود من هذا الكتاب علم معانيه وفنون أغراضه ، وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة فيه مجمعٌ على بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ; ، وهو الظاهر من الروايات ، غير أنّه رُويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيءٍ من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا تُوجِب علماً ولا عملاً ، والأولى الاعراض عنها وترك التشاغل بها ، لأنّه يمكن تأويلها ، ولو صَحّت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجودٌ بين الدفّتين ، فإنّ ذلك معلومٌ صحّته لا يعترضه أحدٌ من الاَُمّة ولا يدفعه » (2).
5 ـ ويقول الإمام الشيخ الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسن المتوفى سنة 548 ه‍ ، في مقدمة تفسيره ( مجمع البيان ) : « ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه ، فانّه لا يليق بالتفسير ، فأمّا الزيادة فمجمعٌ على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامّة أنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً ؛ والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى ، واستوفى الكلام فيه غاية
__________________
(1) الفصل في الملل والنحل 4 : 182.
(2) التبيان 1 : 3.


الاستيفاء » (1).
6 ـ ويقول الإمام العلاّمة الحلي ، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر ، المتوفّى سنة 726 ه‍ في ( أجوبة المسائل المهناوية ) حيثُ سُئل ما يقول سيدنا في الكتاب العزيز ، هل يصحّ عند أصحابنا أنّه نقص منه شيءٌ ، أو زِيد فيه ، أو غُيِّر ترتيبه ، أم لم يصحّ عندهم شيءٌ من ذلك ؟
فأجاب : « الحقّ أنّه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه ، وأنّه لم يزد ولم ينقص ، ونعوذ بالله تعالى من أن يُعْتَقَد مثل ذلك وأمثال ذلك ، فإنّه يُوجِب التطرّق إلى معجزة الرسول 6 المنقولة بالتواتر » (2).
7 ـ ويقول الإمام الشيخ البهائي ، محمد بن الحسين الحارثي العاملي ، المتوفّى سنة 1030 ه‍ ، كما نقل عنه البلاغي في ( آلاء الرحمن ) : « الصحيح أنّ القرآن العظيم محفوظٌ عن التحريف ، زيادةً كان أو نقصاناً ، ويدلّ عليه قوله تعالى : ( وإنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) وما اشتهر بين الناس من اسقاط اسم أمير المؤمنين 7 منه في بعض المواضع ، مثل قوله تعالى ( يا أيُّها الرسولُ بَلّغ ما أُنْزِل إليكَ ـ في عليّ ـ ) وغير ذلك ، فهو غير معتبرٍ عند العلماء » (3).
8 ـ ويقول الإمام الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، المتوفّى سنة 1228 ه‍ في ( كشف الغطاء ) : « لا ريب في أنّ القرآن محفوظٌ من النقصان بحفظ الملك الديّان ، كما دلّ عليه صريح الفرقان ، واجماع العلماء في جميع
__________________
(1) مجمع البيان 1 : 83.
(2) أجوبة المسائل المهناوية : 121.
(3) آلاء الرحمن 1 : 26.


الأزمان ، ولا عبرة بالنادر ، وما ورد في أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها ، ولا سيّما ما فيه نقص ثلث القرآن أو كثير منه ، فإنّه لو كان كذلك لتواتر نقله ، لتوفّر الدواعي عليه ، ولاتّخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله ، ثمّ كيف يكون ذلك وكانوا شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه » (1) ؟!.
9 ـ ويقول الإمام المجاهد السيد محمد الطباطبائي ، المتوفّى سنة 1242 ه‍ في ( مفاتيح الاُصول ) : « لا خلاف أنّ كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواتراً في أصله وأجزائه ، وأمّا في محلّه ووضعه وترتيبه فكذلك عند محقّقي أهل السنة ، للقطع بأنّ العادة تقضي بالتواتر في تفاصيل مثله ، لأنّ هذا المعجز العظيم الذي هو أصل الدين القويم ، والصراط المستقيم ، ممّا توفّرت الدواعي على نقل جمله وتفاصيله ، فما نقل آحاداً ولم يتواتر ، يقطع بأنّه ليس من القرآن قطعاً » (2).
10 ـ ويقول الإمام الشيخ محمد جواد البلاغي ، المتوفّى سنة 1352 ه‍ في ( آلاء الرحمن ) : « ولئن سمعت من الروايات الشاذّة شيئاً في تحريف القرآن وضياع بعضه ، فلا تُقِم لتلك الروايات وزناً ، وقلَّ ما يشاء العلم في اضطرابها ووهنها وضعف رواتها ومخالفتها للمسلمين ، وفيما جاءت به في مروياتها الواهية من الوهن ، وما ألصقته بكرامة القرآن ممّا ليس له شَبَه به » (3).
__________________
(1) كشف الغطاء : 229.
(2) البرهان ـ للبروجردي : 120.
(3) آلاء الرحمن 1 : 18.


11 ـ ويقول الإمام الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء ، المتوفّى سنة 1373 ه‍ في ( أصل الشيعة وأصولها ) : « إنّ الكتاب الموجود في أيدي المسلمين ، هو الكتاب الذي أنزله الله إليه 6 للاعجاز والتحدّي ، ولتعليم الأحكام ، وتمييز الحلال من الحرام ، وإنّه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة ، وعلى هذا إجماعهم ، ومن ذهب منهم ، أو من غيرهم من فرق المسلمين ، إلى وجود نقصٍ فيه أو تحريفٍ ، فهو مخطئ ، يَرُدّهُ نص الكتاب العظيم ( إنّا نحنُ نزّلنا الذكرَ وإنّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) ( الحجر 15 : 9 ).
والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ، ضعيفة شاذّة ، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، فأمّا أن تُؤوّل بنحوٍ من الاعتبار أو يُضْرَب بها الجدار » (1).
12 ـ ويقول الإمام السيد عبدالحسين شرف الدين العاملي ، المتوفّى سنة 1377 ه‍ ، في ( أجوبة مسائل جار الله ) : « إنّ القرآن العظيم والذكر الحكيم ، متواترٌ من طُرقنا بجميع آياته وكلماته وسائر حروفه وحركاته وسكناته ، تواتراً قطعياً عن أئمة الهدى من أهل البيت : ، لا يرتاب في ذلك إلاّ معتوهٌ ، وأئمّة أهل البيت : كلّهم أجمعون رفعوه إلى جدّهم رسول الله 6 عن الله تعالى ، وهذا أيضاً ممّا لا ريب فيه. وظواهر القرآن الحكيم ، فضلاً عن نصوصه ، أبلغ حجج الله تعالى ، وأقوى أدلّة أهل الحقّ بحكم الضرورة الأولية من مذهب الإمامية ، وصحاحهم في ذلك متواترةٌ من طريق العِترة الطاهرة ، ولذلك تراهم يضربون بظواهر الصحاح المخالفة للقرآن عرض الجدار ولا يأبهون بها ، عملاً بأوامر أئمتهم :.
__________________
(1) أصل الشيعة وأُصولها : 101 ـ 102 ط 15.


وكان القرآن مجموعاً أيام النبي 6 على ما هو عليه الآن من الترتيب والتنسيق في آياته وسوره وسائر كلماته وحروفه ، بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ ، ولا تقديمٍ ولا تأخيرٍ ، ولا تبديلٍ ولا تغيير » (1).
13 ـ ويقول الإمام السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي ، المتوفّى سنة 1413 ه‍ ، في ( البيان في تفسير القرآن ) : « المعروف بين المسلمين عدم وقوع التحريف في القرآن ، وأنَّ الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم 6 ، وقد صرح بذلك كثير من الأعلام ، منهم رئيس المحدثين الشيخ الصدوق محمد بن بابويه ، وقد عدّ القول بعدم التحريف من معتقدات الإمامية » (2).
ويقول أيضاً : « إنّ حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال ، لا يقول به إلاّ من ضعف عقله ، أو من لم يتأمّل في أطرافه حقّ التأمّل ، أو من ألجأه إليه من يحبّ القول به ، والحبّ يعمي ويصمّ ، وأمّا العاقل المنصف المتدبّر فلا يشكّ في بطلانه وخرافته » (3).
14 ـ يقول الإمام الخميني المتوفّى سنة 1409 ه‍ : «إنّ الواقف على عناية المسلمين بجمع الكتاب وحفظه وضبطه ، قراءةً وكتابةً ، يقف على بطلان تلك الروايات المزعومة. وما ورد فيها من أخبار ـ حسبما تمسّكوا به ـ إمّا ضعيف لا يصلح للاستدلال به ، أو موضوع تلوح عليه إمارات الوضع ، أو غريب يقضي بالعجب ، أمّا الصحيح منها فيرمي إلى مسألة
__________________
(1) عبدالحسين شرف الدين / أجوبة مسائل جار الله : أُنظر ص 28 ـ 37.
(2) البيان في تفسير القرآن : 200.
(3) البيان في تفسير القرآن : 259.


التأويل ، والتفسير ، وإنّ التحريف إنّما حصل في ذلك ، لا في لفظه وعباراته.
وتفصيل ذلك يحتاج إلى تأليف كتاب حافل ببيان تاريخ القرآن والمراحل التي قضاها طيلة قرون ، ويتلخّص في أنّ الكتاب العزيز هو عين ما بين الدفّتين ، لا زيادة فيه ولا نقصان ، وأنّ الاختلاف في القراءات أمر حادث ، ناشئ عن اختلاف في الاجتهادات ، من غير أن يمسّ جانب الوحي الذي نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين »(1).
__________________
(1) تهذيب الأصول 2 : 165.





يقول السيد شرف الدين العاملي المتوفّى سنة 1377 ه‍ : « لا تخلو كتب الشيعة وكتب أهل السنة من أحاديث ظاهرة بنقص القرآن ، غير أنّها ممّا لا وزن لها عند الأعلام من علمائنا أجمع ، لضعف سندها ، ومعارضتها بما هو أقوى منها سنداً ، وأكثر عدداً ، وأوضح دلالةً ، على أنّها من أخبار الآحاد ، وخبر الواحد إنّما يكون حجّة إذا اقتضى عملاً ، وهذه لا تقتضي ذلك ، فلا يرجع بها عن المعلوم المقطوع به ، فليضرب بظواهرها عرض الحائط » (1).
قبل الخوض في موقف علماء الشيعة من روايات التحريف ، وعرض نماذج من هذه الروايات ، نرى لزاماً علينا بيان بعض الحقائق المتعلّقة بهذا الموضوع :
1 ـ إنّ من يحتجّ على الشيعة في مسألة تحريف القرآن ببعض الأحاديث الموجودة في كتب بعض علمائهم ، فهو متحاملٌ بعيدٌ عن الانصاف ؛ لأنّه لا يوجد بين مصنّفي الشيعة من التزم الصحّة في جميع ما أورده من أحاديث في كتابه ، كما لا يوجد كتابٌ واحدٌ من بين كتب
__________________
(1) أجوبة مسائل جار الله ـ المسألة الرابعة : 31 ـ 37.


الشيعة وُصِفت كلّ أحاديثه بالصحّة وقوبلت بالتسليم لدى الفقهاء والمحدّثين.
يقول الشيخ الاستاذ محمّد جواد مغنية : « إنّ الشيعة تعتقد أنّ كتب الحديث الموجودة في مكتباتهم ، ومنها ( الكافي ) و ( الاستبصار ) و ( التهذيب ) و ( من لا يحضره الفقيه ) فيها الصحيح والضعيف ، وإنّ كتب الفقه التي ألّفها علماؤهم فيها الخطأ والصواب ، فليس عند الشيعة كتاب يؤمنون بأنّ كلّ ما فيه حقٌّ وصوابٌ من أوّله إلى آخره غير القرآن الكريم ، فالأحاديث الموجودة في كتب الشيعة لا تكون حجةً على مذهبهم ولا على أيّ شيعي بصفته المذهبية الشيعية ، وإنّما يكون الحديث حجّةً على الشيعي الذي ثبت عنده الحديث بصفته الشخصية ».
ويكفي أن نذكر هنا أنّ كتاب الكافي للشيخ محمد بن يعقوب الكليني المتوفّى 329 ه‍ ، وهو من الكتب الأربعة التي عليها المدار في استنباط الاحكام الشرعية ، يحتوي على ستة عشر ألفاً ومئتي حديث ، صنفوا أحاديثه ـ بحسب الاصطلاح ـ إلى الصحيح والحسن والموثق والقوي والضعيف.
2 ـ لا يجوز نسبة القول بالتحريف إلى الرواة أو مصنفي كتب الحديث ، لأنّ مجرد رواية أو إخراج الحديث لا تعني أنّ الراوي أو المصنّف يعتقد بمضمون ما يرويه أو يخرجه ، فقد ترى المحدث يروي في كتابه الحديثي خبرين متناقضين يخالف أحدهما مدلول الآخر بنحو لا يمكن الجمع بينهما ، فالرواية إذن أعم من الاعتقاد والقبول والتصديق بالمضمون ، وإلاّ لكان البخاري ومسلم وسواهما من أصحاب الصحاح


والمجاميع الحديثية ، وسائر أئمّة الحديث ، وجُلّ الفقهاء والعلماء عند فرق المسلمين ، قائلين بالتحريف ؛ لأنّهم جميعاً قد رووا أخباره في كتبهم وصحاحهم ! والأمر ليس كذلك بالتأكيد ، فلو صحّ نسبة الاعتقاد بما يرويه الرواة إليهم للزم أن يكون هؤلاء وغيرهم من المؤلّفين ونقلة الآثار يؤمنون بالمتعارضات والمتناقضات ، وبما يخالف مذاهبهم ومعتقداتهم ، ما داموا يروون ذلك كلّه في كتبهم الحديثية ، وهذا ما لم يقل به ولا أدعاه عليهم ذو مسكة إذا أراد الانصاف.
3 ـ إنّ ذهاب بعض أهل الفرق إلى القول بتحريف القرآن ، أو إلى رأيٍ يتفرّد به ، لا يصحّ نسبة ذلك الرأي إلى تلك الفرقة بأكملها ، لا سيما إذا كان ما ذهب إليه قد تعرّض للنقد والتجريح والانكار من قبل علماء تلك الفرقة ومحقّقيها ، فكم من كتبٍ كُتِبت وهي لا تعبّر في الحقيقة إلاّ عن رأي كاتبها ومؤلّفها ، ويكون فيها الغثّ والسمين ، وفيها الحقّ والباطل ، وتحمل بين طيّاتها الخطأ والصواب ، ولا يختصّ ذلك بالشيعة دون سواهم ، فذهاب قوم من حشوية العامّة إلى القول بتحريف القرآن لا يبرّر نسبة القول بالتحريف إلى أهل السنة قاطبة ، وذهاب الشيخ النوري المتوفى 1320 ه‍ إلى القول بنقص القرآن لا يصلح مبرّراً لنسبة القول بالتحريف إلى الشيعة كافة ، وكذا لا يصحّ نسبة أقوال ومخاريق ابن تيميّة التي جاء بها من عند نفسه وتفرّد بها إلى أهل السنة بصورة عامة سيما وإنّ أغلب محققيهم قد أنكروها عليه ، فإذا صحّ ذلك فانّما هو شطط من القول وإسراف في التجنّي وإمعان في التعصّب ومتابعة الهوى.




إنّ العلماء الأجلاّء والمحققين من الشيعة ، لم يلتفتوا إلى ما ورد في مجاميع حديثهم من الروايات الظاهرة بنقص القرآن ، ولا اعتقدوا بمضمونها قديماً ولا حديثاً ، بل أعرضوا عنها ، وأجمعوا على عدم وقوع التحريف في الكتاب الكريم ، كما تقدّم في كلمات أعلامهم.
وروايات الشيعة في هذا الباب يمكن تقسيمها إلى قسمين :
1 ـ الروايات غير المعتبرة سنداً ؛ لكونها ضعيفة أو مرسلة أو مقطوعة ، وهذا هو القسم الغالب فيها ، وهو ساقط عن درجة الاعتبار.
2 ـ الروايات الواردة عن رجال ثقات وبأسانيد لا مجال للطعن فيها ، وهي قليلة جداً ، وقد بيّن العلماء أنّ قسماً منها محمولٌ على التأويل ، أو التفسير ، أو بيان سبب النزول ، أو القراءة ، أو تحريف المعاني لا تحريف اللفظ ، أو الوحي الذي هو ليس بقرآن ، إلى غير ذلك من وجوه ذكروها في هذا المجال ، ونفس هذه المحامل تصدق على الروايات الضعيفة أيضاً لو أردنا أن ننظر إليها بنظر الاعتبار ، لكن يكفي لسقوطها عدم اعتبارها سنداً.
أمّا الروايات التي لا يمكن حملها وتوجيهها على معنى صحيح ، وكانت ظاهرة أو صريحة في التحريف ، فقد اعتقدوا بكذبها وضربوا بها عرض الحائط وذلك للأسباب التالية :
1 ـ أنّها مصادمةٌ لما عُلِم ضرورةً من أنّ القرآن الكريم كان مجموعاً على عهد النبوّة.


2 ـ أنّها مخالفةٌ لظاهر الكتاب الكريم حيثُ قال تعالى : ( إنّا نحنُ نَزّلنا الذِّكر وإنّا لهُ لَحَافِظُون ) (1).
3 ـ أنّها شاذّةٌ ونادرةٌ ، والروايات الدالة على عدم التحريف مشهورةٌ أو متواترةٌ ، كما أنّها أقوى منها سنداً ، وأكثر عدداً ، وأوضح دلالة.
4 ـ أنّها أخبار آحاد ، ولا يثبت القرآن بخبر الواحد ، وإنّما يثبت بالتواتر ، كما تقّدم في أدلّة نفي التحريف ، وقد ذهب جماعة من أعلام الشيعة الإمامية إلى عدم حجّية الآحاد مطلقاً ، وإنّما قيل بحجيّتها إذا اقتضت عملاً ، وهي لا تقتضي ذلك في المسائل الاعتقادية ولا يُعبأ بها.
__________________
(1) الحجر 15 : 9.


سنورد هنا شطراً من الروايات الموجودة في كتب الشيعة الإمامية ، والتي أدّعى البعض ظهورها في النقصان أو دلالتها عليه ، ونبيّن ما ورد في تأويلها وعدم صلاحيتها للدلالة على النقصان ، وما قيل في بطلانها وردّها ، وعلى هذه النماذج يقاس ما سواها ، وهي على طوائف :
الطائفة الأولى : الروايات التي ورد فيها لفظ التحريف ، ومنها :
1 ـ ما رُوي في ( الكافي ) بالاسناد عن علي بن سويد ، قال : كتبتُ إلى أبي الحسن موسى 7 وهو في الحبس كتاباً ـ وذكر جوابه 7 ، إلى أن قال : ـ « أُؤتمنوا على كتاب الله ، فحرّفوه وبدّلوه » (1).
2 ـ ما رواه ابن شهر آشوب في ( المناقب ) من خطبة أبي عبدالله الحسين الشهيد 7 في يوم عاشوراء وفيها : « إنّما أنتم من طواغيت الاَُمّة ، وشُذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرّفي الكتاب » (2).
فمن الواضح أنّ المراد بالتحريف هنا حمل الآيات على غير معانيها ، وتحويلها عن مقاصدها الأصلية بضروبٍ من التأويلات الباطلة والوجوه الفاسدة دون دليلٍ قاطعٍ ، أو حجةٍ واضحةٍ ، أو برهان ساطع ، ومكاتبة الإمام الباقر 7 لسعد الخير صريحةٌ في الدلالة على أنّ المراد بالتحريف
__________________
(1) الكافي 8 : 125 / 95.
(2) بحار الانوار 45 : 8.


هنا التأويل الباطل والتلاعب بالمعاني ، قال 7 : « وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه ، وحرفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ... » (1) أي إنّهم حافظوا على ألفاظه وعباراته ، لكنّهم أساءوا التأويل في معاني آياته.
الطائفة الثانية : الروايات الدالّة على أنّ بعض الآيات المنزلة من القرآن قد ذُكِرت فيها أسماء الائمة : ، ومنها :
1 ـ ما رُوي في ( الكافي ) عن أبي جعفر الباقر 7 ، قال : « نزل جبرئيل بهذه الآية على محمد 6 هكذا : ( وإن كُنْتُم في رَيْبٍ مِمّا نَزَّلنا عَلَى عَبْدِنا ـ في عليّ ـ فأتُوا بسُورةٍ مِن مِثْلِهِ ) (2) ( البقرة 2 : 23 ).
2 ـ ما رُوي في ( الكافي ) عن أبي بصير ، عن أبي عبدالله 7 في قول الله تعالى : ( من يُطعِ اللهَ ورَسُولَه ـ في ولاية عليّ والأئمة من بعده ـ فَقَد فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً ) ( الاحزاب 33 : 71 ) هكذا نزلت (3).
3 ـ ما رُوي في ( الكافي ) عن منخل ، عن أبي عبدالله 7 ، قال : « نزل جبرئيل على محمّد 6 بهذه الآية هكذا ( يا أيُّها الذينَ أوتُوا الكتاب آمِنوا بما أنَزَّلنَا ـ في عليّ ـ نُوراً مُبِيناً ) ( النساء 4 : 47 ).
ويكفي في سقوط هذه الروايات عن درجة الاعتبار نصّ العلاّمة المجلسي في ( مرآة العقول ) على تضعيفها ، ويغنينا عن النظر في
__________________
(1) الكافي 8 : 53 / 16.
(2) الكافي 1 : 417 / 26.
(3) الكافي 1 : 414 / 8.


أسانيدها واحداً واحداً اعتراف المحدّث الكاشاني بعدم صحّتها (1) ، وقول الشيخ البهائي : « ما اشتهر بين الناس من اسقاط اسم أمير المؤمنين 7 من القرآن في بعض المواضع .. غير معتبرٍ عند العلماء » (2) ، وعلى فرض صحّته يمكن حمل قوله : « هكذا نزلت » وقوله : « نزل جبرئيل على محمد 6 بهذه الآية هكذا » على أنّه بهذا المعنى نزلت ، وليس المراد أنّ الزيادة كانت في أصل القرآن ثمّ حُذِفت.
قال السيد الخوئي : « إنّ بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن وليس من القرآن نفسه ، فلابدّ من حمل هذه الروايات على أنّ ذكر أسماء الأئمة في التنزيل من هذا القبيل ، وإذا لم يتمّ هذا الحمل فلابدّ من طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب والسُنّة والأدلة المتقدّمة على نفي التحريف » (3).
وعلى فرض عدم الحمل على التفسير ، فإنّ هذه الروايات معارضة بصحيحة أبي بصير المروية في ( الكافي ) ، قال : سألتُ أبا عبدالله 7 عن قول الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمر مِنْكُم ) ( النساء4 : 59 ). قال : فقال : « نزلت في عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين : ». فقلت له : إنّ الناس يقولون : فما له لم يسمّ علياً وأهل بيته في كتاب الله ؟ قال 8 : « فقولوا لهم : إنّ رسول الله 6 نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ لهم ثلاثاً ولا أربعاً ، حتّى كان رسول الله 6 هو
__________________
(1) الوافي 2 : 273.
(2) آلاء الرحمن 1 : 26.
(3) البيان في تفسير القرآن : 230.


الذي فسّر لهم ذلك » (1). فتكون هذه الرواية حاكمة على جميع تلك الروايات وموضحة للمراد منها ، ويضاف إلى ذلك أنّ المتخلّفين عن بيعة أبي بكر لم يحتجّوا بذكر اسم الامام عليّ 7 في القرآن ، ولو كان له ذكر في الكتاب لكان ذلك أبلغ في الحجة ، فهذا من الأدلة الواضحة على عدم ذكره في الآيات. ومما يُضاف لهذه الطائفة من الروايات أيضاً :
1 ـ ما رُوي في ( الكافي ) عن الأصبغ بن نباتة ، قال : سَمِعتُ أمير المؤمنين 7 يقول : « نزل القرآن أثلاثاً : ثلث فينا وفي عدوّنا ، وثلث سنن وأمثال ، وثلث فرائض وأحكام » (2).
2 ـ ما رُوي في ( تفسير العياشي ) عن الصادق 7 ، قال : « لو قُرىء القرآن كما أُنزل لألفيتنا فيه مُسمّين » (3).
وقد صرّح العلاّمة المجلسي ; بأنّ الحديث الأوّل مجهول ، أمّا الحديث الثاني فقد رواه العياشي مرسلاً عن داود بن فرقد ، عمّن أخبره ، عنه 7 ، وواضح ضعف هذا الاسناد ، وعلى فرض صحّته فإنّ المراد بالتسمية هنا هو كون أسمائهم : مثبتة فيه على وجه التفسير ، لا أنّها نزلت في أصل القرآن ، أي لولا حذف بعض ما جاء من التأويل لآياته ، وحذف ما أنزله الله تعالى تفسيراً له ، وحذف موارد النزول وغيرها ، لألفيتنا فيه مُسمّين ، أو لو أُوّل كما أنزله الله تعالى وبدون كَدَر الأوهام وتلبيسات أهل الزيغ والباطل لألفيتنا فيه مُسمّين.
__________________
(1) الكافي 1 : 286 / 1.
(2) الكافي 2 : 627 / 2.
(3) تفسير العياشي 1 : 13 / 4.


الطائفة الثالثة : الروايات الموهمة بوقوع التحريف في القرآن بالزيادة والنقصان ، ومنها :
1 ـ ما رواه العياشي في ( تفسيره ) عن مُيسّر ، عن أبي جعفر 7 ، قال : « لولا أنّه زيد في كتاب الله ونقص منه ، ما خفي حقّنا على ذي حجا ، ولو قد قام قائمنا فنطق صدّقه القرآن » (1).
2 ـ ما رواه الكليني في ( الكافي ) والصفار في ( البصائر ) عن جابر ، قال : سمعت أبا جعفر 7 يقول : « ما ادعى أحدٌ من الناس أنّه جمع القرآن كلّه كما أُنزل إلاّ كذّاب ، وما جمعه وحفظه كما أنزله الله تعالى إلاّ علي بن أبي طالب 7 والأئمة من بعده : » (2).
3 ـ ما رواه الكليني في ( الكافي ) والصفار في ( البصائر ) عن جابر ، عن أبي جعفر 7 ، أنّه قال : « ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع القرآن كلّه ظاهره وباطنه غير الأوصياء » (3).
وهذه الطائفة قاصرةٌ أيضاً عن الدلالة على تحريف القرآن ، فالحديث الأول من مراسيل العياشي ، وهو مخالف للكتاب والسُنّة ولإجماع المسلمين على عدم الزيادة في القران ولا حرف واحد ، وقد ادعى الاجماع جماعة كثيرون من الأئمة الأعلام منهم السيد المرتضى والشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي وغيرهم. أمّا النقص المشار إليه في الحديث الأول فالمراد به نقصه من حيث عدم المعرفة بتأويله وعدم الاطلاع على
__________________
(1) تفسير العياشي 1 : 13 / 6.
(2) الكافي 1 : 228 / 1 ، بصائر الدرجات : 213 / 2.
(3) الكافي 1 : 228 / 2 ، بصائر الدرجات : 213 / 1.


باطنه ، لا نقص آياته وكلماته وسوره ، وقوله « ولو قد قام قائمنا فنطق صدّقه القرآن » فإنّ الذي يصدّق القائم ( صلوات الله عليه ) هو هذا القرآن الفعلي الموجود بين أيدي الناس ، ولو كان محرفاً حقّاً لم يصدقه القرآن ، فمعنى ذلك أنّ الإمام الحجة ( صلوات الله عليه ) سوف يُظهر معاني القرآن على حقيقتها بحيث لا يبقى فيها أي لبسٍ أو غموض ، فيدرك كلّ ذي حجا أنّ القرآن يصدّقه ، فالمراد من الحديث الأول ـ على فرض صحّته ـ أنّهم قد حرّفوا معانيه ونقصوها وأدخلوا فيها ما ليس منها حتى ضاع الأمر على ذي الحجا.
أمّا الرواية الثانية ففي سندها عمرو بن أبي المقدام ، وقد ضعّفه ابن الغضائري (1) ، وفي سند الرواية الثالثة المنخّل بن جميل الأسدي ، وقد قال عنه علماء الرجال : ضعيف ، فاسد الرواية ، متّهم بالغلوّ ، أضاف إليه الغلاة أحاديث كثيرة (2).
وعلى فرض صحّة الحديثين فإنّه يمكن توجيههما بمعنى آخر يساعد عليه اللفظ فيهما ، قال السيد الطباطبائي : « قوله 7 : إنّ عنده جميع القرآن ؛ إلى آخره ، الجملة وإن كانت ظاهرةً في لفظ القرآن ، ومشعرة بوقوع التحريف فيه ، لكن تقييدها بقوله : « ظاهره وباطنه » يفيد أنّ المراد هو العلم بجميع القرآن ، من حيث معانيه الظاهرة على الفهم العادي ، ومعانيه المستبطنة على الفهم العادي » (3).
__________________
(1) أُنظر مجمع الرجال 4 : 257 و 6 : 139 ، رجال ابن داود : 281 / 516.
(2) أُنظر مجمع الرجال 4 : 257 و 6 : 139 ، رجال ابن داود : 281 / 516.
(3) التحقيق في نفي التحريف : 62.


وقد أورد السيد عليّ بن معصوم المدني هذين الخبرين ضمن الأحاديث التي استشهد بها على أنّ أمير المؤمنين 7 والأوصياء من أبنائه ، علموا جميع ما في القرآن علماً قطعياً بتأييد إلهي ، وإلهام رباني ، وتعليم نبوي ، وذكر أنّ الأحاديث في ذلك متواترةٌ بين الفريقين » (1).
ويمكن حمل الروايتين أيضاً على معنى الزيادات الموجودة في مصحف أمير المؤمنين 7 والتي أخذها عمّن لا ينطق عن الهوى تفسيراً ، أو تنزيلاً من الله شرحاً للمراد ، إلاّ أنّ هذه الزيادات ليست من القرآن الذي أُمِر رسول الله 6 بتبليغه إلى الاَُمّة.
الطائفة الرابعة : الروايات الدالّة على أنّ في القرآن أسماء رجال ونساء فأُلقيت منه ، ومنها :
1 ـ ما روي في ( تفسير العياشي ) مرسلاً عن الصادق 7 ، قال : « إنّ في القرآن ما مضى ، وما يحدث ، وما هو كائن ، كانت فيه أسماء الرجال فألقيت ، إنّما الاسم الواحد منه في وجوه لا تُحصى ، يعرف ذلك الوصاة » (2).
2 ـ ما روي في ( الكافي ) عن البزنطي ، قال : دفع إليَّ أبو الحسن الرضا 7 مصحفاً ، فقال : « لا تَنْظُر فيه ». ففتحته وقرأت فيه ( لم يكن الذين كفروا ... ) ( البينة 98 : 1 ) فوجدت فيها اسم سبعين رجلاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم. قال : فبعث إليّ : « ابعث إليّ بالمصحف » (3).
__________________
(1) شرح الصحيفة السجادية : 401.
(2) تفسير العياشي 1 : 12 / 10.
(3) الكافي 2 : 631 / 16.


3 ـ ما رواه الشيخ الصدوق في ( ثواب الاعمال ) عن عبدالله بن سنان ، عن أبي عبدالله 7 ، قال : « سورة الأحزاب فيها فضائح الرجال والنساء من قريش وغيرهم يا بن سنان ، إنّ سورة فضحت نساء قريش من العرب ، وكانت أطول من سورة البقرة ، ولكن نقّصوها وحرّفوها » (1). وهذه الروايات لا نصيب لها من الصحّة ، فهي بين ضعيف ومرسل ومرفوع ، ومن الممكن القول بأنّ تلك الاسماء التي أُلقيت إنّما كانت مثبتةً فيه على وجه التفسير لألفاظ القرآن وتبيين الغرض منها ، لا أنّها نزلت في أصل القرآن. وقد ذكر ذلك الفيض الكاشاني في ( الوافي ) والسيد الخوئي في ( البيان ) وغيرهما .. بل إنّ الشيخ الصدوق ـ وهو رئيس المحدّثين ـ الذي روى الخبر في كتابه ( ثواب الاعمال ) ينصّ في كتابه ( الاعتقادات ) على عدم نقصان القرآن ، وهذا مما يشهد بأنّهم قد يروون ما لا يعتقدون بصحّته سنداً أو معنىً.
الطائفة الخامسة : الأحاديث التي تتضمّن بعض القراءات المنسوبة إلى الأئمة : ، ومنها :
1 ـ روى الكليني بإسناده عن عمران بن ميثم ، عن أبي عبدالله 7 ، قال : « قرأ رجل على أمير المؤمنين 7 : ( فإنَّهم لا يُكِذّبُونَكَ وَلكن الظَّالمينَ بآيات الله يَجْحَدُون ) ( الأنعام 6 : 33 ) فقال 7 : بلى والله لقد كذَّبوه أشدّ التكذيب ، ولكنّها مخفّفة ( لا يكذبونك ) لا يأتون بباطل يكذبون به حقّك » (2).
__________________
(1) ثواب الأعمال : 100.
(2) الكافي 8 : 200 / 241.


فيما يلي نعرض بعض الشبهات التي روّجها البعض متشبثاً بها للدلالة على وقوع التحريف ، وسنبيّن وجوه اندفاعها :
الأولى : أنّه كان لأمير المؤمنين عليّ 7 مصحف غير المصحف الموجود ، وقد أتى به إلى القوم فلم يقبلوا منه ، وكان مصحفه مشتملاً على أبعاض ليست موجودة في القرآن الذي بين أيدينا ، ممّا يترتّب عليه أنّ المصحف الموجود ناقصٌ بالمقارنة مع مصحف أمير المؤمنين 7 ، وهذا هو التحريف الذي وقع الكلام فيه.
نقول : نعم ، تفيد طائفةٌ من أحاديث الشيعة وأهل السنة أنّ علياً 7 اعتزل الناس بعد وفاة رسول الله 6 ليجمع القرآن العظيم ، وفي بعض الروايات : أنّ عمله ذاك كان بأمر الرسول الأكرم 6 وأنّه 7 قال : « لا أرتدي حتّى أجمعه » ، وروي أنّه لم يرتدِ إلاّ للصلاة حتّى جمعه (1).
ولكن أعلام الطائفة يذكرون بأنّ غاية ما تدلّ عليه الأحاديث أنّ مصحف علي 7 يمتاز عن المصحف الموجود بأنّه ، كان مرتّباً على حسب النزول ، وأنّه قدّم فيه المنسوخ على الناسخ ، وكتب فيه تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل على حقيقة تنزيلها ، أي كتب فيه التفاسير المنزلة تفسيراً من قبل الله سبحانه ، وأنّ فيه المحكم والمتشابه ،
__________________
(1) أُنظر : شرح ابن أبي الحديد 1 : 27 ، الاتقان 1 : 204 ، أنساب الاشراف 1 : 587 ، الطبقات الكبرى 2 : 338 ، مناهل العرفان 1 : 247 ، كنز العمال 2 : 588 / 4792.


وأنّ فيه أسماء أهل الحقّ والباطل ، وأنّه كان بإملاء رسول الله 6 وخطّ علي 7 ، وأنّ فيه فضائح قومٍ من المهاجرين والأنصار ، وجميع هذه الاختلافات لا توجب تغايراً في أصل القرآن وحقيقته.
وأهمّ ما في هذه الاختلافات هو الزيادة التي كانت في مصحفه 7 والتي يخلو عنها المصحف الموجود ، وهذه الزيادة قد تكون من جملة الاحاديث القدسية والتي هي وحي وليست بقرآن ، كما نصّ عليه الشيخ الصدوق في ( الاعتقادات ) (1). وقد تكون من جهة التأويل والتفسير وليست من أبعاض القرآن.
قال الشيخ المفيد ; في ( أوائل المقالات ) : « ولكن حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين 7 من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان مثبتاً منزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، قال الله تعالى : ( ولا تعْجَل بالقُرآنِ مِن قَبْل أن يُقْضى إليْكَ وَحْيُه وَقُلْ رَبِّ زِدْني عِلماً ) ( طه 20 : 114 ) فيسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف » (2).
وقال السيد الخوئي : «إنّ اشتمال قرآنه 7 على زيادات ليست في القرآن الموجود ، وإن كان صحيحاً ، إلاّ أنّه لا دلالة في ذلك على أنّ هذه الزيادات كانت من القرآن وقد أُسقطت منه بالتحريف ، بل الصحيح أنّ تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان التأويل ، وما يؤول إليه الكلام ، أو
__________________
(1) الاعتقادات : 93.
(2) أوائل المقالات : 55.


بعنوان التنزيل من الله تعالى شرحاً للمراد » (1).
وخلاصة القول أنّ الادّعاء بوجود زيادات في مصحف عليّ 7 هي من القرآن ادِّعاءٌ بلا دليل وهو باطل قطعاً ، ويدلّ على بطلانه جميع ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم التحريف في القرآن.
الثانية : أنّ بعض الأحاديث تفيد أنّ القرآن الكريم على عهد الإمام المهدي 7 يختلف عمّا هو عليه الآن ، ممّا يفضي إلى الشكّ في هذا القرآن الموجود ، ومن هذه الروايات :
1 ـ ما رواه الفتّال والشيخ المفيد ، عن أبي جعفر 7 : « إذا قام القائم من آل محمد 6 ضرب فساطيط لمن يُعلّم الناس القرآن على ما أنزله الله عزّ وجل ، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ؛ لأنّه يخالف فيه التأليف » (2).
وروي نحوه النعماني في الغيبة (3).
2 ـ ما رواه الكليني في ( الكافي ) عن سالم بن سلمة ، قال : قال أبو عبدالله 7 : « إذا قام القائم قرأ كتاب الله عزّ وجل على حدّه ، وأخرج المصحف الذي كتبه علي 7 » (4).
هذان الحديثان وسواهما ممّا اعتمده القائلون بهذه الشبهة جميعها
__________________
(1) البيان في تفسير القرآن : 223.
(2) ارشاد المفيد 2 : 386 تحقيق مؤسسة آل البيت : ، روضة الواعظين : 265.
(3) غيبة النعماني : 318 و 319.
(4) الكافي 2 : 633 / 23.


ضعيفة ، وإذا تجاوزنا النظر في أسانيدها نقول : لعلّ السرّ في تعليمه الناس القرآن هو مخالفة مصحفه 7 للمصحف الموجود الآن من حيث التأليف ، كما تدلّ عليه الرواية المتقدّمة عن أبي جعفر 7 ، أو مخالفته من حيث الخصائص والميزات المذكورة في مصحف علي 7 كما تدلّ عليه الرواية الثانية ، فعندئذٍ يحتاج إلى تفسيره وتأويله على حقيقة تنزيله ، فهذه الشبهة مبتنيةٌ إذن على الشبهة السابقة ، ومندفعةٌ باندفاعها ، إذ إنّ القرآن في عهده ( صلوات الله عليه ) لا يختلف عن هذا القرآن الموجود من حيث الألفاظ ، وإنمّا الاختلاف في الترتيب ، أو في الزيادات التفسيرية ، كما تقدّم بيانه في الشبهة الأولى.
الثالثة : أنّ التحريف قد وقع في التوراة والانجيل ، وقد ورد في الأحاديث عن النبي الأكرم 6 أنّه قال : « يكون في هذه الاَُمّة كلّ ما كان في بني إسرائيل ، حذو النعل بالنعل ، وحذو القذّة بالقذّة » (1). ونتيجة ذلك أنّ التحريف لابدّ من وقوعه في القرآن الكريم كما وقع في العهدين ، وهذا يوجب الشكّ في القرآن الموجود بين المسلمين ، وإلاّ لم يصحّ معنى هذه الأحاديث.
وقد أجاب السيد الخوئي عن هذه الشبهة بوجوه ، منها :
1 ـ إنّ الروايات المشار إليها أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً.
2 ـ إنّ هذا الدليل لو تمّ لكان دالاً على وقوع الزيادة في القرآن أيضاً ، كما وقعت في التوراة والانجيل ، ومن الواضح بطلان ذلك.
__________________
(1) الفقيه 1 : 203 / 609.


3 ـ إنّ كثيراً من الوقائع التي حدثت في الاَُمم السابقة لم يصدر مثلها في هذه الاَُمة ، كعبادة العجل ، وتيه بني إسرائيل أربعين سنة ، وغرق فرعون وأصحابه ، وملك سليمان للانس والجنّ ، ورفع عيسى إلى السماء ، وموت هارون وهو وصيّ موسى قبل موت موسى نفسه .. وغير ذلك ممّا لا يسعنا إحصاؤه ، وهذا أدلّ دليل على عدم إرادة الظاهر من تلك الروايات ، فلابدّ من إرادة المشابهة في بعض الوجوه (1) ، وبهذا الوجه اكتفى السيد الطباطبائي في تفسير الميزان (2).
__________________
(1) البيان في تفسير القرآن : 221.
(2) تفسير الميزان 12 : 120.




إنّ المعروف من مذهب أهل السنة هو تنزيه القرآن الكريم عن الخطأ والنقصان ، وصيانته عن التحريف ، وبذلك صرّحوا في تفاسيرهم وفي كتب علوم القرآن ، إلاّ أنّه رويت في صحاحهم أحاديث يدلّ ظاهرها على التحريف ، تمسّك بها الحشوية منهم ، فذهبوا إلى وقوع التحريف في القران تغييراً أو نقصاناً ، كما أشار إلى ذلك الطبرسي في مقدمة تفسيره ( مجمع البيان ) (1) ، وقد تقدّم قوله في تصريحات أعلام الإمامية.
ولا شكّ أنّ ما كان ضعيفاً من هذه الأحاديث فهو خارج عن دائرة البحث ، وأمّا التي صحّت عندهم سنداً ، فهي أخبار آحاد ، ولا يثبت القرآن بخبر الواحد ، على أنّ بعضها محمولٌ على التفسير ، أو الدعاء ، أو السُنّة ، أو الحديث القدسي ، أو اختلاف القراءة ، وأمّا ما لا يمكن تأويله على بعض الوجوه ، فقد حمله بعضهم على نسخ التلاوة ، أي قالوا بنسخه لفظاً وبقائه حكماً ، وهذا الحمل باطلٌ ، وهو تكريسٌ للقول بالتحريف ، وقد نفاه أغلب محققيهم وعلمائهم على ما سيأتي بيانه في محلّه إن شاء الله تعالى ، وذهبوا إلى تكذيب وبطلان هذه الأحاديث لاستلزامها للباطل ، إذ إنّ القول بها يفضي إلى القدح في تواتر القرآن العظيم.
يقول عبد الرحمن الجزيري : « أمّا الأخبار التي فيها أنّ بعض القران المتواتر ليس منه ، أو أنّ بعضاً منه قد حُذِف ، فالواجب على كلِّ مسلم
__________________
(1) مجمع البيان 1 : 83.


تكذيبها بتاتاً ، والدعاء على راويها بسوء المصير » (1).
ويقول ابن الخطيب : « على أنّ هذه الأحاديث وأمثالها ، سواء صحّ سندها أو لم يصحّ ، فهي على ضعفها وظهور بطلانها ، قلّة لا يعتدّ بها ، ما دام إلى جانبها إجماع الاَُمّة ، وتظاهر الأحاديث الصحيحة التي تدمغها وتظهر أغراض الدين والمشرّع بأجلى مظاهرها » (2).
وجماعة منهم قالوا بوضع هذه الأحاديث واختلاقها من قبل أعداء الإسلام والمتربصّين به ، يقول الحكيم الترمذي : « ما أرى مثل هذه الروايات إلاّ من كيد الزنادقة ».
ويقول الدكتور مصطفى زيد : « وأمّا الآثار التي يحتجّون بها .. فمعظمها مروي عن عمر وعائشة ، ونحن نستبعد صدور مثل هذه الآثار بالرغم من ورودها في الكتب الصحاح ، وفي بعض هذه الروايات جاءت العبارات التي لا تتّفق ومكانة عمر وعائشة ، ممّا يجعلنا نطمئنّ إلى اختلاقها ودسّها على المسلمين» (3).
إذن ، فهم موافقون للشيعة الإمامية في القول بنفي التحريف ، فيكون ذلك ممّا اتّفقت عليه كلمة المسلمين جميعاً ، يقول الدكتور محمّد التيجاني : «إنّ علماء السنة وعلماء الشيعة من المحقّقين ، قد أبطلوا مثل هذه الروايات واعتبروها شاذّة ، وأثبتوا بالأدلة المقنعة بأنّ القرآن الذي بأيدينا هو نفس القرآن الذي أُنزل على نبيّنا محمّد 6 وليس فيه زيادةٌ ولا نقصان ولا تبديل ولا تغيير » (4).
__________________
(1) الفقه على المذاهب الأربعة 4 : 260.
(2) الفرقان : 163.
(3) النسخ في القرآن 1 : 283.
(4) لأكون مع الصادقين : 168 ـ 176.


إنّ قيل : إنّ الروايات التي ظاهرها نقصان القرآن ، أو وجود اللحن فيه ، مخرّجةٌ في كتب الصحاح عن بعض الصحابة ، وإنّ تكذيبها وإنكارها قد يوجب الطعن في صحّة تلك الكتب ، أو في عدالة الصحابة. نقول :
أولاً : إنّ القول بصحّة جميع الأحاديث المخرّجة في كتابي مسلم والبخاري ـ وهما عمدة كتب الصحاح ـ وأنّ الاَُمّة تلقّتهما بالقبول ، غير مسلّم ، فلقد تكلّم كثير من الحفاظ وأئمة الجرح والتعديل في أحاديث موضوعةٍ وباطلةٍ وضعيفةٍ ، فتكلّم الدارقطني في أحاديث وعلّلها في ( علل الحديث ) ، وكذلك الضياء المقدسي في ( غريب الصحيحين ) ، والفيروز آبادي في ( نقد الصحيح ) وغيرهم ، وتكلّموا أيضاً في رجال رُوي عنهم في الصحيحين ، وهم مشهورون بالكذب والوضع والتدليس. وفيما يلي بعض الارقام والحقائق التي توضّح هذه المسألة بشكل جليّ :
1 ـ قد انتقد حفّاظ الحديث البخاري في 110 أحاديث ، منها 32 حديثاً وافقه مسلم فيها ، و 78 انفرد هو بها.
2 ـ الذي انفرد البخاري بالاخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة وثلاثون رجلاً ، المتكلّم فيه بالضعف منهم 80 رجلاً ، والذي انفرد مسلم بالاخراج لهم دون البخاري 620 رجلاً ، المتكلّم فيه بالضعف منهم 160 رجلاً.
3 ـ الأحاديث المنتقدة المخرّجة عندهما معاً بلغت 210 حديثاً ، اختصّ البخاري منها بأقلّ من 80 حديثاً ، والباقي يختصّ بمسلم.


4 ـ هناك رواة يروي عنهم البخاري ، ومسلم لا يرتضيهم ولا يروي عنهم ، ومن أشهرهم عكرمة مولى ابن عباس.
5 ـ وقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينها ، فلو أفادت علماً لزم تحقّق النقيضين في الواقع ، وهو محال ، لذا أنكر العلماء مثل هذه الأحاديث وقالوا ببطلانها.
وقد نصّ ببعض ما ذكرناه أو بجملته متقدّمو شيوخهم ومتأخروهم ، كالنووي والرازي وكمال الدين بن الهمّام ، وأبي الوفاء القرشي ، وأبي الفضل الأدفوي ، والشيخ عليّ القاري ، والشيح محبّ الله بن عبد الشكور ، والشيخ محمّد رشيد رضا ، وابن أمير الحاج ، وصالح بن مهدي المقبلي ، والشيخ محمود أبو ريّة ، والدكتور أحمد أمين ، والدكتور أحمد محمّد شاكر وغيرهم ، معترفين ومذعنين بحقيقة أنّ الاَُمّة لم تتلقَّ أحاديث الصحيحين بالقبول ، أو أنّه ليس من الواجب الديني الإيمان بكلّ ما جاء فيهما ، فتبيّن أنَّ جميع القول بالاجماع على صحّتهما لا نصيب له من الصحّة.
قال أبو الفضل الأدفوي : « إنّ قول الشيخ أبي عمرو بن الصلاح : إنّ الاَُمّة تلقّت الكتابين بالقبول ؛ إن أراد كلّ الاَُمّة فلا يخفى فساد ذلك. وإن أراد بالاَُمّة الذين وجدوا بعد الكتابين فهم بعض الاَُمّة. ثمّ إن أراد كلّ حديث فيهما تُلقّي بالقبول من الناس كافّة فغير مستقيم ، فقد تكلّم جماعة من الحفّاظ في أحاديث فيهما ، فتكلّم الدارقطني في أحاديث وعلّلها ، وتكلّم ابن حزم في أحاديث كحديث شريك في الإسراء ، وقال : إنّه خلط ، ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينها ،


والقطع لا يقع التعارض فيه » (1).
وقال الشيخ محمد رشيد رضا : « ليس من أُصول الدين ، ولا من أركان الإسلام ، أن يؤمن المسلم بكلّ حديث رواه البخاري مهما يكن موضوعه ، بل لم يشترط أحد في صحّة الإسلام ، ولا في معرفته التفصيلية ، الاطلاع على صحيح البخاري والاقرار بكلّ ما فيه » (2).
فاتّضح أن ما يروّجه البعض من دعوى أنّ أحاديث نقصان القرآن ووجود اللحن فيه ، مخرجةٌ في الصحاح ، ولا ينبغي الطعن فيها ، ممّا لا أساس له ؛ لأنّه مخالف للاجماع والضرورة ، ومحكم التنزيل ، فليس كلّ حديثٍ صحيحٍ يجوز العمل به ، فضلاً عن أن يكون العمل به واجباً ، ورواية الأخبار الدالّة على التحريف غير مُسلّمة عند أغلب محقّقي أهل السنة إلاّ عند القائلين بصحّة جميع ما في كتب الصحاح ، ووجوب الإيمان بكلّ ما جاء فيها ، وهؤلاء هم الحشوية ممّن لا اعتداد بهم عند أئمّة المذاهب.
ثانياً : دعوى الاجماع على عدالة جميع الصحابة باطلةٌ لا أصل لها ، إذ إنّ عمدة الأدلة القائمة على عدالتهم جميعاً ما روي أنّه 6 قال : « أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم ». وقد نصّ جمعٌ كبيرٌ من أعيان أهل السنة على أنّه حديثٌ باطلٌ موضوعٌ (3) ، هذا فضلاً عن
__________________
(1) التحقيق في نفي التحريف : 312.
(2) تفسير المنار 2 : 104 ـ 105.
(3) أُنظر : لسان الميزان 2 : 117 ـ 118 ، 137ـ 138 ، ميزان الاعتدال 1 : 413 كنز العمال 1 :


معارضته للكتاب والسُنّة والواقع التاريخي ، فقد نصّت كثيرٌ من الآيات القرآنية على أنّ بعض الأصحاب ممّن هم حول النبيّ 6 خلال حياته ، كانوا منافقين فسقة ، كما في سورة التوبة وآل عمران والمنافقون ، ونصّت بعض الآيات على ارتداد قسم منهم بعد وفاته 6 كقوله تعالى : ( أفَإن ماتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُم على أعْقَابِكُم ) ( آل عمران 3 : 144 ) ، وممّا يدلّ على ارتداد بعضهم بعده 6 حديث الحوض : « أنا فرطكم على الحوض ، ولأنازَعَنّ أقواماً ثمّ لاُغْلَبَنّ عليهم ، فأقول : يا ربِّ أصحابي. فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك » (1) ، وقد عدّه الزبيدي الحديث السبعين من الأحاديث المتواترة ، حيث رواه خمسون نفساً (2) ، كما قامت الشواهد على جهل كثير من الأصحاب بالقرآن الكريم والاحكام الشرعية ، كما أنّ بعضهم تسابّوا وتباغضوا وتضاربوا وتقاتلوا ، وحكت الآثار عن ارتكاب بعضهم الكبائر واقتراف السيئات كالزنا وشرب الخمر والربا وغير ذلك.
قال الرافعي : « لا يتوهمنّ أحدٌ أنّ نسبة بعض القول إلى الصحابة نصّ في أنّ ذلك القول صحيحٌ البتّة ، فإنّ الصحابة غير معصومين ، وقد جاءت روايات صحيحة بما أخطأ فيه بعضهم في فهم أشياء من القرآن على عهد رسول الله 6 وذلك العهد هو ما هو » (3).
__________________
198 / 1002 ، نظرية عدالة الصحابة : 20. الإمامة في أهم الكتب الكلامية وعقيدة الشيعة الإمامية : 463 ـ 514.
(1) صحيح البخاري 9 : 90 / 26 ـ 29 ، صحيح مسلم 1 : 81 / 118 ـ 120 و 4 : 1796 / 32 ، مسند أحمد 5 : 37 و 44 و 49 و 73 ، سنن الترمذي 4 : 486 / 2193 ، سنن أبي داود 4 : 221 / 4686. والآية من سورة آل عمران 3 : 144.
(2) التحقيق في نفي التحريف : 342.
(3) اعجاز القرآن : 44.






نذكر هنا جملة من الروايات الموجودة في كتب أهل السنة ، ونبيّن ما ورد في تأويلها ، وما قيل في بطلانها وإنكارها ، وعلى أمثال هذه النماذج يقاس ما سواها ، وهي على طوائف :
الطائفة الاولى : الروايات التي ذكرت سوراً أو آيات زُعِم أنّها كانت من القرآن وحُذِفت منه ، أو زعم البعض نسخ تلاوتها ، أو أكلها الداجن ، نذكر منها :
1 ـ رُوي عن عائشة : « أنّ سورة الأحزاب كانت تُقْرأ في زمان النبي 6 في مائتي آية ، فلم نقدر منها إلاّ على ماهو الآن » (1). وفي لفظ الراغب : « مائة آية » (2).
2 ـ ورُوي عن عمر وأُبي بن كعب وعكرمة مولى ابن عباس : « أنّ سورة الأحزاب كانت تقارب سورة البقرة ، أو هي أطول منها ، وفيها كانت آية الرجم » (3).
3 ـ وعن حذيفة : « قرأتُ سورة الأحزاب على النبي 6 فنسيتُ منها
__________________
(1) الاتقان 3 : 82 ، تفسير القرطبي 14 : 113 ، مناهل العرفان 1 : 273 ، الدر المنثور 6 : 560.
(2) محاضرات الراغب 2 : 4 / 434.
(3) الاتقان 3 : 82 ، مسند أحمد 5 : 132 ، المستدرك 4 : 359 ، السنن الكبرى 8 : 211 ، تفسير القرطبي 14 : 113 ، الكشاف 3 : 518 ، مناهل العرفان 2 : 111 ، الدر المنثور 6 : 559.


سبعين آية ما وجدتها » (1).
وقد حمل ابن الصلاح المدّعى زيادته على التفسير ، وحمله السيوطي وابن حزم على نسخ التلاوة ، والمتأمّل لهذه الروايات يلاحظ وجود اختلاف فاحش بينها في مقدار ما كانت عليه سورة الأحزاب ، الأمر الذي يشير إلى عدم صحّة هذه النصوص وبطلانها ، أمّا آية الرجم الواردة في الحديث الثاني فستأتي في القسم الرابع من هذه الطائفة.
الثانية : لو كان لابن آدم واديان ...
رُوي عن أبي موسى الأشعري أنّه قال لقرّاء البصرة : « كنّا نقرأ سورة نُشبّهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها ، غير أنّي حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب » (2).
وقد حمل ابن الصلاح هذا الحديث على السنّة ، قال : « إنّ هذا معروف في حديث النبي 6 على أنّه من كلام الرسول ، لا يحكيه عن ربِّ العالمين في القرآن ويؤيده حديث روي عن العباس بن سهل ، قال : سمعت ابن الزبير على المنبر يقول : « قال رسول الله 6 : لو أنّ ابن آدم أُعطي واديان .. » وعدّه الزبيدي الحديث الرابع والأربعين من الأحاديث المتواترة وقال : « رواه من الصحابة خمسة عشر نفساً » (3). ورواه أحمد في
__________________
(1) الدر المنثور 6 : 559.
(2) صحيح مسلم 2 : 726 / 1050.
(3) مقدمتان في علوم القرآن : 85 ـ 88.


( المسند ) عن أبي واقد الليثي على أنّه حديث قدسيّ (1).
أمّا إخبار أبي موسى بأنّه كان ثمّة سورة تشبه براءة في الشدّة والطول ، فلو كانت لحصل العلم بها ، ولما غفل عنها رسول الله 6 والصحابة وكُتّاب الوحي وحُفّاظه وقُرّاؤه.
الثالثة : سورتا الخلع والحفد
روي أنّ سورتي الخلع والحفد كانتا في مصحف ابن عباس وأُبي بن كعب وابن مسعود ، وأنّ عمر بن الخطاب قنت بهما في الصلاة ، وأنّ أبا موسى الأشعري كان يقرأهما .. وهما :
1 ـ « اللّهم إنا نستعينك ونستغفرك ، ونثني عليك ولا نكفرك ، ونخلع ونترك من يفجرك ».
2 ـ «اللّهم إياك نعبد ، ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ، ونخشى عذابك ، إنّ عذابك بالكافرين ملحق » (2).
وقد حملهما الزرقاني والباقلاني والجزيري وغيرهم على الدعاء ، وقال صاحب الانتصار : « إنّ كلام القنوت المروي : أنّ أُبي بن كعب أثبته في مصحفه ، لم تقم الحجّة بأنّه قرآن منزل ، بل هو ضرب من الدعاء ، ولو كان قرآناً لنقل إلينا وحصل العلم بصحّته » إلى أن قال : « ولم يصحّ ذلك عنه ، وإنّما روي عنه أنّه أثبته في مصحفه ، وقد أثبت في مصحفه ما ليس
__________________
(1) مسند أحمد 5 : 219.
(2) مناهل العرفان 1 : 257 ، روح المعاني 1 : 25.


بقرآن من دعاء أو تأويل .. الخ » (1).
وقد روي هذا الدعاء في ( الدر المنثور ) والاتقان والسنن الكبرى و ( المصنّف ) وغيرها من عديد من الروايات عن ابن الضرس والبيهقي ومحمد بن نصر ، ولم يُصرّحوا بكونه قرآناً (2).
الرابعة : آية الرجم
روي بطرق متعدّدة أنّ عمر بن الخطاب ، قال : « إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرجم .. والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب الله لكتبتها : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة ، نكالاً من الله ، والله عزيز حكيم. فإنّا قد قرأناها » (3).
وأخرج ابن أشته في ( المصاحف ) عن الليث بن سعد ، قال : « إنّ عمر أتى إلى زيدٍ بآية الرجم ، فلم يكتبها زيد لأنّه كان وحده » (4).
وقد حمل ابن حزم آية الرجم في ( المحلى ) على أنّها ممّا نسخ لفظه وبقي حكمه ، وهو حملٌ باطلٌ ، لأنّها لو كانت منسوخة التلاوة لما جاء عمر ليكتبها في المصحف ، وأنكر ابن ظفر في ( الينبوع ) عدّها ممّا نسخ تلاوةً ، وقال : « لأنّ خبر الواحد لا يُثبت القرآن » (5).
__________________
(1) مناهل العرفان 1 : 264.
(2) السنن الكبرى 2 : 210 ، المصنف لعبد الرزاق 3 : 212.
(3) المستدرك 4 : 359 و 360 ، مسند أحمد 1 : 23 و 29 و 36 و 40 و 50 ، طبقات ابن سعد 3 : 334 ، سنن الدارمي 2 : 179.
(4) الاتقان 3 : 206.
(5) البرهان للزركشي 2 : 43.


وحملها أبو جعفر النحاس على السُنّة ، وقال : « إسناد الحديث صحيحٌ ، إلاّ أنّه ليس حكمه حكم القرآن الذي نقله الجماعة عن الجماعة ، ولكنها سُنّةٌ ثابتةٌ ، وقد يقول الإنسان كنتُ أقرأ كذا لغير القرآن ، والدليل على هذا أنّه قال : لو لا أنّي أكره أن يقال زاد عمر في القرآن ، لزدته » (1).
الخامسة : آية الجهاد :
رُوي أنّ عمر قال لعبدالرحمن بن عوف : « ألم تجد فيما أُنزل علينا : أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة ، فأنا لا أجدها ؟ قال : أُسقطت فيما أسقط من القرآن » (2).
نقول : ألم يرووا في أحاديث جمع القرآن أنّ الآية تُكتَب بشهادة شاهدين من الصحابة على أنّها ممّا أنزل الله في كتابه ؟ فما منع عمر وعبدالرحمن بن عوف من الشهادة على أنّ الآية من القرآن وإثباتها فيه ؟ فهذا دليلٌ قاطعٌ على وضع هذه الرواية ، وإلاّ كيف سقطت هذه الآية المدّعاة عن كُتّاب القرآن وحُفّاظه في طول البلاد وعرضها ، ولم تبق إلاّ مع عمر وعبدالرحمن بن عوف ؟
السادسة : آية الرضاع :
رُوي عن عائشة أنّها قالت : « كان فيما أُنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله 6
__________________
(1) الناسخ والمنسوخ : 8.
(2) الاتقان 3 : 84 ، كنز العمال 2 : 567 حديث / 4741.


وهنّ ممّا يقرأ من القرآن » (1).
لقد أوّل بعض المحقّقين خبر عائشة هذا بأنّه ليس الغرض منه أنّ ذلك كان آيةً من كتاب الله ، بل كان حكماً من الأحكام الشرعية التي أوحى الله بها إلى رسوله 6 في غير القرآن ، وأمر القرآن باتّباعها ، فمعنى قولها : « كان فيما أُنزل من القرآن ... » كان من بين الأحكام التي أنزلها الله على رسوله وأمرنا باتّباعها في القرآن أن عشر رضعات يحرمن ، ثمّ نسخ هذا الحكم بخمس رضعات معلومات يحرمن ، وتوفي رسول الله 6 وهذا الحكم باقٍ لم ينسخ ، فأمّا كونه منزلاً موحى به فذلك لأنّه 6 لا ينطق عن الهوى ، وأمّا كوننا مأمورين باتّباع ما جاء به الرسول من الأحكام فلأن الله تعالى قال : ( وَمَا آتاكُم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهاكُم عَنْهُ فَانْتَهُوا ) ( الحشر59 : 7 ). وحمله البعض على أنّه ممّا نسخت تلاوته وحكمه فأبطلوه ، وهذا الحمل باطلٌ على ما سيأتي بيانه. لكن بعض الشافعية والحنابلة حملوه على نسخ التلاوة ، وذلك لا يصحّ لأنّ الظاهر من الحديث أنّ النسخ كان بعد وفاة النبي 6 وهو أمرٌ باطلٌ بالاجماع ، وقد ترك العمل بهذا الحديث مالك بن أنس وهو راوي الحديث ، وأحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهم ، وقال الطحاوي والسرخسي وغيرهما ببطلانه وشذوذه وعدم صحته ، ومن المتأخرين الاَُستاذ السايس وتلميذه الاَُستاذ العريض وعبدالرحمن الجزيري وابن الخطيب وغيرهم (3).
__________________
(1) صحيح مسلم 2 : 1075 / 1452 ، سنن الترمذي 3 : 456 ، المصنف للصنعاني 7 : 467 و 470.
(2) الفقه على المذاهب الأربعة 4 : 259.
(3) مشكل الآثار 3 : 6 ـ 8 ، الناسخ والمنسوخ : 10 ـ 11 ، أُصول السرخسي 2 : 78 ، فتح المنان : 223 ـ 230 ، التمهيد في علوم القرآن 2 : 282 ، الفقه على المذاهب الاربعة 4 : 258 ـ 260.


وهذا الحديث بلفظ « فتوفي رسول الله وهنّ ممّا يقرأ من القرآن » رواه أنس بن مالك عن عبدالله بن أبي بكر ، وقد رُوي عن غيره بدون هذا اللفظ ، قال أبو جعفر النحاس : « قال بعض أجلّة أصحاب الحديث : قد روى هذا الحديث رجلان جليلان أثبت من عبدالله بن أبي بكر ، فلم يذكرا أنّ هذا فيه ، وهما القاسم بن محمد بن أبي بكر ويحيى بن سعيد الأنصاري » (1) ، وقال الطحاوي : « هذا ممّا لا نعلم أحداً رواه كما ذكرنا غير عبدالله بن أبي بكر ، وهو عندنا وهمٌ منه » (2).
لكنّ خلوّ الرواية من هذا اللفظ لا يصحّح كونها قرآناً يُتلى ولا ينفيه ، قال صاحب المنار : « لو صحّ أنّ ذلك كان قرآناً يتلى لما بقي علمه خاصاً بعائشة ، بل كانت الروايات تكثر فيه ، ويعمل به جماهير الناس ، ويحكم به الخلفاء الراشدون ، وكل ذلك لم يكن » وقال : « إنّ ردّ هذه الرواية عن عائشة لأهون من قبولها مع عدم عمل جمهور من السلف والخلف بها »(3).
السابعة : آية رضاع الكبير عشراً :
رُوي عن عائشة أنَّها قالت : « نزلت آية الرجم ورضاع الكبير عشراً ، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلمّا مات رسول الله 6 وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها » (4).
__________________
(1) الناسخ والمنسوخ : 10 ـ 11.
(2) مشكل الآثار 3 : 7 ـ 8.
(3) تفسير المنار 4 : 472.
(4) مسند أحمد 6 : 269 ، المحلّى 11 : 235 ، سنن ابن ماجة 1 : 625 ، الجامع لأحكام القرآن 14 :


وظاهرٌ من هذه الرواية أنّه لم يحفظ القرآن ولم يكتبه غير عائشة ، وهو أمرٌ في غاية البعد والغرابة ، فأين سائر الصحابة والحُفّاظ والكتبة منهم ، قال السرخسي : «حديث عائشة لا يكاد يصحّ ؛ لأنّ بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب ، ولا يتعذّر عليهم به إثباته في صحيفة أُخرى ، فعرفنا أنّه لا أصل لهذا الحديث » (1). أمّا بالنسبة لآية الرجم المذكورة في الحديث فقد تقدم أنّه لا يصحّ اعتبارها قرآنا لكونها من أخبار الآحاد ، وحكم الرجم من السنن الثابتة عن الرسول الأكرم 6.
ثم إنّ هذا الحكم ـ في رضاع الكبير عشراً ـ قد انفردت به عائشة ، وعارضها فيه سائر أزواج النبي 6 ، ولم تأخذ واحدة منهنّ بقولها في ذلك ، وأنكره أيضاً ابن مسعود على أبي موسى الأشعري ، وقال : « إنّما الرضاعة ما أنبت اللحم والدم » فرجع أبو موسى عن القول به (2).
الثامنة : آية الصلاة على الذين يصلون في الصفوف الأولى !
عن حميدة بنت أبي يونس ، قالت : « قرأ عليّ أبي ، وهو ابن ثمانين سنة ، في مصحف عائشة : إنّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيُّها الذين آمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليماً وعلى الذين يصلون في الصفوف الأولى ». قالت : « قبل أن يغيّر عثمان المصاحف » (3).
وظاهر أنّ هذا من الآحاد التي لا يثبت بها قرآن ، وإلاّ فكيف فات هذا
__________________
113.
(1) أُصول السرخسي 2 : 79.
(2) جامع بيان العلم 2 : 105.
(3) الاتقان 3 : 82.


عن سائر الصحابة وكُتّاب الوحي منهم وحُفّاظه وجُمّاعه ، واختصت به عائشة دونهم ؟ ولو صحّ فهو روايةٌ عن الرسول 6 ، فاعتقدت عائشة كونها من القرآن فكتبتها ، حيثُ روي عن البراء بن عازب أنّه قال : « قال رسول الله 6 : إنّ الله وملائكته يصلون على الصفوف الأوّل » (1) ، وروي عن عائشة أنّها قالت : « قال رسول الله 6 : إنّ الله وملائكته يصلّون على الذين يَصِلُون الصفوف » (2) ، ولعلّه أيضاً ممّا يُكْتب في حاشية المصحف ، حيث كانوا يسجّلون ما يرون له أهميةً وشأناً في حاشية مصاحفهم الخاصّة.
التاسعة : عدد حروف القرآن
أخرج الطبراني عن عمر بن الخطاب ، قال : « القرآن ألف ألف وسبعة وعشرون ألف حرف » (3). بينما القرآن الذي بين أيدينا لا يبلغ ثلث هذا المقدار ، قال الذهبي : « تفرّد محمّد بن عبيد بهذا الخبر الباطل » (4) ، هذا فضلاً عن الاختلاف في رواية عدد الحروف ، فقد روي ألف ألف وواحد وعشرون ألفاً ومئة وخمسون حرفاً ، وقيل : غير ذلك ، الأمر الذي يضعف الثقة بصحة صدورها.
وإذا صحّ ذلك فلعلّه من الوحي الذي ليس بقرآن كالأحاديث القدسية ؛ وقد لاحظنا في أدلّة نفي التحريف أنّه بلغ من الدقّة والتحرّي
__________________
(1) المصنف لعبد الرزاق 2 : 484.
(2) المستدرك 1 : 214.
(3) الاتقان 1 : 242.
(4) ميزان الاعتدال 3 : 639.


في ثبت آيات القرآن أن يحمل بعض الصحابة السيف لحذف حرف واحد منه ، فكيف يحذف ثلثاه ولم نجد معارضاً منهم ، ولا مطالباً بتدوين ما بقي من ثلثيه ؟! هذا فضلاً عن وجود كثير من الصحابة ممّن جمع القرآن كلّه أو بعضه في عهد رسول الله 6 ـ كما سيأتي بيانه ـ حفظاً في الصدور ، أو تدويناً في القراطيس ، فكانت القراطيس شاهدة على ما في الصدور ، والصدور شاهدة على ما في القراطيس ، فكيف يضيع ثلثاه في حال كهذه ؟!
وأخيراً فأنّ الملاحظ على كثير ممّا أدّعي أنّه من القرآن مخالفته لقواعد اللغة وأُسلوب القرآن الكريم وبلاغته السامية ، ممّا يدل على أنّه ليس بكلام الخالق تعالى ، وليست له طلاوته ، ولا به حلاوته وعذوبته ، وليست عليه بهجته ، بل يتبّرأ من ركاكته وانحطاطه وتهافته المخلوقون ، فكيف برب العالمين ، وسمّو كتابه المبين ؟!
ومن أراد الاطلاع على ما ذكرناه ، فليراجع مقدمة ( تفسير آلاء الرحمن ) ، للشيخ البلاغي ففيه مزيد بيان.
والملاحظ أيضاً أنّ قسماً منه هو من الأحاديث النبوية ، أو من السُنّة والأحكام التي ظنّوها قرآناً ، كما روي أنّ قوله 6 : « الولد للفراش ، وللعاهر الحجر » هو آية ، ولا يشكّ أحدٌ في أنّه حديث. و الملاحظ أيضاً أنّ أغلبه روي بألفاظ متعدّدة وتعابير مختلفة ، فلو كان قرآناً لتوحّدت ألفاظه.


قسّموا النسخ في الكتاب العزيز إلى ثلاثة أقسام :
1 ـ نسخ الحكم دون التلاوة ، وهذا هو القسم الذي نطق به محكم التنزيل ، وهو المشهور بين العلماء والمفسرين ، وهو أمر معقولٌ مقبولٌ ، حيثُ إنّ بعض الأحكام لم ينزل دفعةً واحدةً ، بل نزل تدريجياً لتألفه النفوس وتستسيغه العقول ، فنسخت تلك الأحكام وبقيت ألفاظها ، لأسرارٍ تربويةٍ وتشريعيةٍ يعلمها الله تعالى.
2 ـ نسخ التلاوة دون الحكم ، وقد مثّلوا له بآية الرجم ، فقالوا : إنّ هذه الآية كانت من القرآن ثمّ نسخت تلاوتها وبقي حكمها.
3 ـ نسخ التلاوة والحكم معاً ، وقد مثّلوا له بآية الرضاع.
وقد تقدّم في ثنايا البحث السابق أنّ البعض حمل قسماً من الروايات الدالة على النقصان على أنّها آيات نسخت تلاوتها وبقيت أحكامها ، أو نسخت تلاوةً وحكماً ، وذلك تحاشياً من التسليم بها الذي يفضي إلى القول بتحريف القرآن ، وفراراً من ردّها وتكذيبها الذي يؤول إلى الطعن في الكتب الصحاح والمسانيد المعتبرة ، أو الطعن في الأعيان الذين نُقلت عنهم ، ولا شكّ أنّ القول بالضربين الأخيرين من النسخ هو عين القول بالتحريف : وهو باطل لما يلي :
1 ـ يستحيل عقلاً أن يرد النسخ على اللفظ دون الحكم ، لأنّ الحكم لابدّ له من لفظ يدلّ عليه ، فإذا رفع اللفظ فما هو الدليل الذي يدلّ عليه ؟


فالحكم تابع للّفظ ، ولا يمكن أن يرفع الأصل ويبقى التابع.
2 ـ النسخ حكم ، والحكم لابدّ أن يكون بالنصّ ، ولا انفكاك بينهما ، ولا دليل على نسخ النصوص التي حكتها الآثار المتقدّمة وسواها ، إذ لم ينقل نسخها ولم يرد في حديث عن النبيّ 6 في واحدٍ منها أنّها منسوخة ، والواجب يقتضي أن يُبلّغ الاَُمة بالنسخ كما بلّغ بالنزول ، وبما أنّ ذلك لم يحدث فالقول به باطل.
3 ـ الأخبار التي زعم نسخ تلاوتها أخبار آحاد ، ولا تقوى دليلاً وبرهاناً على حصوله ، إذ صرحوا باتّفاق العلماء أجمع على عدم جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد (1) ، ونسبه القطّان إلى الجمهور (2) ، وعلّله رحمة الله الهندي « بأنّ خبر الواحد إذا اقتضى عملاً ولم يوجد في الأدلة القاطعة ما يدلّ عليه وجب ردّه » (3) ، بل إنّ الشافعي وأصحابه وأكثر أهل الظاهر ، قد قطعوا بامتناع نسخ القران بالسُنّة المتواترة ، وبهذا صرّح أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ، بل من قال بإمكان نسخ الكتاب بالسُنّة المتواترة منع وقوعه (4) ، لذا لا تصحّ دعوى نسخ التلاوة مع بقاء الحكم أو بدونه ، حتّى لو ادّعي التواتر في أخبار النسخ ، فضلاً عن كونها أخبار آحاد ضعيفة الاسناد واهية المتن كما تقدّم.
4 ـ أنكر بعض المعتزلة وعامة علماء الإمامية وأعلامهم الضربين
__________________
(1) الموافقات للشاطبي 3 : 106.
(2) مباحث في علوم القرآن : 237.
(3) إظهار الحق 2 : 90.
(4) الاحكام للآمدي 3 : 139 ، أُصول السرخسي 2 : 67.


الأخيرين من النسخ واعتبروهما نفس القول بالتحريف ، وكذا أنكرهما أغلب علماء ومحققي أهل السنة المتقدمين منهم والمتأخرين ، وحكى القاضي أبو بكر في ( الانتصار ) عن قومٍ انكار الضرب الثاني منه (1) ، وأنكره أيضاً ابن ظفر في كتاب ( الينبوع ) (2) ، ونُقِل عن أبي مسلم « أنّ نسخ التلاوة ممنوع شرعاً » (3) وفيما يلي بعض أقوال محققي أهل السنة في ابطال القول بنسخ التلاوة :
1 ـ قال الخضري : « أنا لا أفهم معنى لآيةٍ أنزلها الله تعالى لتفيد حكماً ثمّ يرفعها مع بقاء حكمها ؛ لأنّ القرآن يقصد منه إفادة الحكم والاعجاز معاً بنظمه ، فما هي المصلحة في رفع آية مع بقاء حكمها ؟ إنّ ذلك غير مفهوم ، وقد أرى أنّه ليس هناك ما يدعو إلى القول به » (4).
2 ـ وقال الدكتور صبحي الصالح : « أمّا الجرأة العجيبة ففي الضربين الثاني والثالث اللذين نسخت فيهما بزعمهم آيات معينة ، إمّا مع نسخ أحكامها وإمّا دون نسخ أحكامها ، والناظر في صنيعهم هذا سرعان ما يكتشف فيه خطأً مركباً ، فتقسيم المسائل إلى أضرب إنّما يصلح إذا كان لكلّ ضربٍ شواهد كثيرةٍ أو كافيةٍ على الأقل ليتيسّر استنباط قاعدةٍ منها ، وما لعشّاق النسخ إلاّ شاهدٌ أو اثنان على كلّ من هذين الضربين ، وجميع ما ذكروه منها أخبار آحاد ، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار
__________________
(1) البرهان في علوم القرآن 2 : 47.
(2) البرهان في علوم القرآن 2 : 43.
(3) مناهل العرفان 2 : 112.
(4) التحقيق في نفي التحريف : 279 ، صيانة القرآن من التحريف : 30.


آحاد لا حجّة فيها » (1).
3 ـ وقال الدكتور مصطفى زيد : « ومن ثمّ يبقى منسوخ التلاوة باقي الحكم مجرّد فرض لم يتحقّق في واقعةٍ واحدةٍ ، ولهذا نرفضه ، ونرى أنّه غير معقولٍ ولا مقبول » (2).
4 ـ وقال عبد الرحمن الجزيري : « إنّ الأخبار التي جاء فيها ذكر كلمةٍ ( من كتاب الله ) على أنّها كانت فيه ونسخت في عهد رسول الله 6 فهذه لا يُطلق عليها أنّها قرآن ، ولا تُعطى حكم القرآن باتّفاق ، ثمّ ينظر إنّ كان يمكن تأويلها بما يخرجها عن كونها قرآناً ، فإنّ الإخبار بها يعطي حكم الحديث ، وإن لم يمكن تأويلها فالذي أعتقده أنّها لا تصلح للدلالة على حكم شرعي ، لأنّ دلالتها موقوفةٌ على ثبوت صيغتها. وصيغتها يصحّ نفيها باتّفاقٍ ، فكيف يمكن الاستدلال بها ؟! فالخير كلّ الخير في ترك مثل هذه الروايات » (3).
5 ـ وقال ابن الخطيب : « أمّا ما يدّعونه من نسخ تلاوة بعض الآيات مع بقاء حكمها ، فأمر لا يقبله إنسان يحترم نفسه ، ويقدّر ما وهبه الله تعالى من نعمة العقل ، إذ ما هي الحكمة من نسخ تلاوة آية مع بقاء حكمها ؟ ما الحكمة من صدور قانون واجب التنفيذ ورفع ألفاظ هذا القانون مع بقاء العمل بأحكامه ؟ ويستدلّون على باطلهم هذا بإيراد آيةٍ من هذا النوع يدّعون نسخها ، ويعلم الله تعالى أنّها ليست من القرآن ، ولو كانت لما
__________________
(1) مباحث في علوم القرآن : 265.
(2) فتح المنان : 229.
(3) الفقه على المذاهب الأربعة 4 : 260.


أغفلها الصحابة ( رضوان الله عليهم ) ولدونّها السلف الصالح في مصاحفهم » (1).
الطائفة الثانية : الروايات الدالّة على الخطأ واللحن والتغيير.
الأولى : روي عن عثمان أنّه قال : « إنّ في المصحف لحناً ، وستقيّمه العرب بألسنتها. فقيل له : ألا تغيره ؟ فقال : دعوه ، فإنّه لا يحلّ حراماً ، ولا يحرّم حلالاً » (2).
حمل ابن أشتة اللحن الوارد في الحديث على الخطأ في اختيار ما هو أولى من الأحرف السبعة ، وعلى أشياء خالف لفظُها رَسْمَها ، وهذا الحمل غير مستقيمٍ ، والأولى منه هو ترك الرواية وتكذيبها وإنكارها ، كما فعل الداني والرازي والنيسابوري وابن الأنباري والآلوسي والسخاوي والخازن والباقلاني وجماعة آخرين (3) ، حيثُ صرّحوا أنّ هذه الرواية لا يصحّ بها دليل ولا تقوم بمثلها حجّة ، لأنّ إسنادها ضعيف ، وفيه اضطراب وانقطاع وتخليط ، ولأنّ المصحف منقولٌ بالتواتر عن رسول الله 6 فلا يمكن ثبوت اللحن فيه ، ثمّ إنّ ما بين الدفّتين هو كلام الله بإجماع المسلمين ، ولا يجوز أن يكون كلام الله لحناً وغلطاً ، وقد ذهب عامّة الصحابة وسائر علماء الاَُمّة من بعدهم إلى أنّه لفظ صحيح ليس فيه أدنى خطأ من كاتبٍ ولا من غيره ، واستدلّوا أيضاً على إنكار هذه الرواية
__________________
(1) الفرقان : 157.
(2) الاتقان 2 : 320 ، 321.
(3) تاريخ القرآن الكردي : 65 ، التفسير الكبير 11 : 105 ، تفسير النيسابوري 6 : 23 المطبوع في هامش تفسير الطبري ، تفسير الخازن 1 : 422.


بقولهم : إنّ عثمان جعل للناس إماماً ، فكيف يرى فيه لحناً ويتركه لتقيّمه العرب بألسنتها ، أو يؤخّر شيئاً فاسداً ليصلحه غيره ؟! وإذا كان الذين تولوا جمعه وكتابته لم يقيّموا ذلك ـ وهم الخيار وأهل اللغة والفصاحة والقدرة على ذلك ـ فكيف يتركون في كتاب الله لحناً يصلحه غيرهم ! ثمّ إنّ عثمان لم يكتب مصحفاً واحداً بل كتب عدة مصاحف ، فلم تأتِ المصاحف مختلفة قطّ ، إلاّ فيما هو من وجوه القراءات والتلاوة دون الرسم ، وليس ذلك باللحن » (1).
والذي يهوّن الخطب في هذه الرواية ومثيلاتها الآتية أنّها برواية عكرمة مولى ابن عبّاس ، وكان من أعلام الضلال ودعاة السوء ، وكان يرى رأي الخوارج ، ويُضرب به المثل في الكذب والافتراء ، حتى قدح به الأكابر وكذّبوه ، أمثال ابن عمر ومجاهد وعطاء وابن سيرين ومالك بن أنس والشافعي وسعيد بن المسيب ويحيى بن سعيد ، وحرّم مالك الرواية عنه ، وأعرض عنه مسلم (2).
الثانية : روي عن ابن عباس في قوله تعالى : ( حَتّى تَسْتَأنِسُوا وتُسلّموا ) ( النور 24 : 27 ) قال : « إنّما هو ( حتّى تستأذنوا ) ، وأنّ الأوّل خطأٌ من الكاتب » (3) ، والمراد بالاستئناس هنا الاستعلام ، أي حتى تستعلموا من في البيت ، فهذه الرواية مكذوبةٌ على ابن عباس ولا تصحّ عنه ، لأنّ مصاحف الإسلام كلّها قد ثبت فيها ( حتى تَسْتَأنِسُوا ) وصحّ الإجماع فيها
__________________
(1) روح المعاني 6 : 13.
(2) أُنظر وفيات الاعيان 1 : 319 ، ميزان الاعتدال 3 : 93 ، المغني في الضعفاء 2 : 84 ، الضعفاء الكبير 3 : 373 ، طبقات ابن سعد 5 : 287 ، تهذيب الكمال 7 : 263.
(3) الاتقان 2 : 327 ، لباب التأويل 3 : 324 ، فتح الباري 11 : 7.


منذ عهد الرسول 6 وإلى الآن ، فلا يعوّل على مثل هذه الرواية ، قال الرازي : « إعلم أنّ هذا القول من ابن عبّاس فيه نظر ، لأنّه يقتضي الطعن في القرآن الذي نُقِل بالتواتر ، ويقتضي صحّة القرآن الذي لم يُنْقَل بالتواتر ، وفَتح هذين البابين يطرق الشكّ في كلِّ القرآن ، وإنّه باطل» (1).
وقال أبو حيان : « من روى عن ابن عبّاس أنّ قوله تعالى : ( حَتّى تَسْتَأنِسوا ) خطأ أو وهمٌ من الكاتب ، وأنّه قرأ ( حتى تَسْتَأذِنُوا ) فهو كافرٌ في الإسلام ، مُلْحِدٌ في الدين ، وابن عباس بريءٌ من هذا القول (2).
الثالثة : روى عروة بن الزبير عن عائشة : أنّه سألها عن قوله تعالى : ( لكن الراسخون في العلم ) ( النساء 4 : 162 ) : ثمّ قال ( والمقيمين ) ، وفي المائدة : ( إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ) ، و ( المائد ة 5 : 69 ) ، و ( إنّ هذان لساحران ) (طه 20 : 63 ) فقالت يابن أُختي ، هذا عمل الكُتّاب ، أخطأوا في الكتاب (3).
أمّا قوله تعالى : ( والمقيمين ) فانّه على العطف يكون ( والمقيمون ) كما في قراءة الحسن ومالك بن دينار ، والذي في المصاحف وقراءة أُبيّ والجمهور ( والمقيمين ) قال سيبويه : « نُصِب على المدح ، أي وأعني المقيمين » وذكر له شواهد وأمثلة من كلام العرب (4).
قال الآلوسي : « ولا يُلْتَفَت إلى من زعم أنّ هذا من لحن القرآن ، وأنّ
__________________
(1) التفسير الكبير 23 : 196.
(2) البحر المحيط 6 : 445.
(3) الاتقان 2 : 320.
(4) الكتاب 1 : 288 ـ 291.


الصواب ( والمقيمون ) بالواو .. إذ لا كلام في نقل النظم متواتراً ، فلا يجوز اللحن فيه أصلاً » (1).
وأمّا قوله تعالى : ( والصابئون ) بالرفع فهو معطوفٌ على محلّ اسم إنّ.
قال الفراء : « ويجوز ذلك إذا كان الاسم ممّا لم يتبيّن فيه الإعراب ، كالمضمر والموصول ، ومنه قول الشاعر :
فمن يكُ أمسى بالمدينة رحله
 

فــإنّي وقـيارٌ بها لغـريبَ
 
برفع ( قيار ) عطفاً على محلّ ياء المتكلّم » (2) وقد أجاز الكوفيون والبصريون الرفع في الآية واستدلّوا بنظائر من كلام العرب.
وقال صاحب المنار : « قد تجرأ بعض أعداء الإسلام على دعوى وجود الغلط النحوي في القرآن ، وعدّ رفع ( الصابئين ) هنا من هذا الغلط ، وهذا جمعٌ بين السخف والجهل ، وإنّما جاءت هذه الجرأة من الظاهر المتبادر من قواعد النحو ، مع جهل أو تجاهل أنّ النحو استنبط من اللغة ، ولم تستنبط اللغة منه » (3).
وأمّا قوله تعالى : ( إنّ هَذانِ لَسَاحِرانِ ) فإنّ القراءة التي عليها جمهور المسلمين هي تخفيف إن المكسورة الهمزة ، فتكون مخففةٌ من الثقيلة غير عاملةٍ ، ورفع ( هذان ).
__________________
(1) روح المعاني 6 : 13.
(2) معاني القرآن 1 : 310 ، مجمع البيان 3 : 346 ، صيانة القرآن من التحريف : 183.
(3) تفسير المنار 6 : 478.


قال الزمخشري : « إنّ هذان لساحران على قولك : إنّ زيد لمنطلق ، واللام هي الفارقة بين إن النافية والمخففة من الثقيلة » (1) ، وعليه فلا إشكال في هذه الآية ، ولا لحن من الكُتّاب !
قال الرازي : « لما كان نقل هذه القراءة في الشهرة كنقل جميع القرآن ، فلو حكمنا ببطلانها جاز مثله في جميع القرآن ، وذلك يفضي إلى القدح في التواتر ، وإلى القدح في كلِّ القرآن ، وإنّه باطل » (2).
الرابعة : روي أنّ الحجاج بن يوسف غيّر في المصحف اثني عشر موضعاً ، منها :
1 ـ كانت في سورة البقرة ( لم يَتَسَنَّ ) (259) فغيّرها ( لم يَتَسَنَّه ) بالهاء.
2 ـ وكانت في سورة المائدة ( شريعةً ومنهاجاً ) (48) فغيّرها ( شِرعةً ومنهاجاً ).
3 ـ وكانت في سورة يونس ( هو الذي ينشركم ) (22) فغيّرها ( هو الذي يسيّركم ) (3).
وهذه الاَمثلة ، وسواها منقولةٌ من ( مصاحف السجستاني ) برواية عباد ابن صهيب (4) ، وعباد متروك الحديث لدى أئمّة الحديث والجرح
__________________
(1) الكشاف 3 : 72.
(2) التفسير الكبير 22 : 75.
(3) الفرقان : 50.
(4) المصاحف : 49.


والتعديل ، ومغموزٌ فيه بالكذب والاختلاق (1).
قال السيد الخوئي : « هذه الدعوى تشبه هذيان المحمومين وخرافات المجانين والأطفال ، فإنّ الحجّاج واحدٌ من ولاة بني أُمية ، وهو أقصر باعاً وأصغر قدراً من أن ينال القرآن بشيءٍ ، بل هو أعجز من أن يغيّر شيئاً من الفروع الإسلامية ، فكيف يغير ما هو أساس الدين وقوام الشريعة ؟! ومن أين له القدرة والنفوذ في جميع ممالك الإسلام وغيرها مع انتشار القرآن فيها ؟ وكيف لم يذكر هذا الخطب العظيم مؤرخ في تاريخه ، ولا ناقد في نقده مع مافيه من الأهمية ، وكثرة الدواعي إلى نقله ؟ وكيف لم يتعرض لنقله واحد من المسلمين في وقته ؟ وكيف أغضى المسلمون عن هذا العمل بعد انقضاء عهد الحجاج وانتهاء سلطته ؟ وهب أنّه تمكّن من جمع نسخ المصاحف جميعها ، ولم تشذّ عن قدرته نسخةٌ واحدةٌ من أقطار المسلمين المتباعدة ، فهل تمكّن من إزالته عن صدور المسلمين وقلوب حفظة القرآن وعددهم في ذلك الوقت لا يحصيه إلاّ الله » (2) ، وقد بيّنا في أدلّة نفي التحريف أنّ خلفاء الصدر الأول لم يجرأوا على حذف حرفٍ منه ، وقد بلغ من دقّة وتحرّي المسلمين أن يهدّدوا برفع السيف في وجه من يُقدِم على ذلك ، فكيف يتمكّن الحجّاج بعد اشتهار القرآن وتعدّد نسخه وحفّاظه أن يغيّر اثني عشر موضعاً من كتاب الله على مرأى ومسمع جمهور المسلمين ومصاحفهم ؟!
الطائفة الثالثة : الروايات الدالّة على الزيادة.
__________________
(1) أُنظر المغني 2 : 326 / 3037.
(2) البيان في تفسير القرآن : 219.


1 ـ روي عن عبدالرحمن بن يزيد أنّه قال : « كان عبدالله بن مسعود يحكّ المعوذتين من مصحفه ، ويقول : إنّهما ليستا من كتاب الله » (1).
2 ـ وروي عن عبدالله بن مسعود أنّه لم يكتب الفاتحة في مصحفه ، وكذلك أُبي بن كعب (2). تقدّم في معنى التحريف أنّ التحريف بالزيادة في القرآن مجمعٌ على بطلانه ، لأنّه يفضي إلى التشكيك في كتاب الله المتواتر يقيناً كلمةً كلمةً وحرفاً حرفاً ، ومن ينكر شيئاً من القرآن فإنّه يخرج عن الدين ، والنقل عن ابن مسعود غير صحيحٍ ، ومخالفٌ لما أجمع عليه المسلمون منذ عهد الرسالة وإلى اليوم من أنّ الفاتحة والمعوذتين من القرآن العزيز.
والرأي السائد بين العلماء في هاتين الروايتين هو إنكار نسبتهما إلى ابن مسعود ، وقالوا : « إن النقل عنه باطل ومكذوب عليه » كما صرّح به الرازي وابن حزم والنووي والقاضي أبو بكر والباقلاني وابن عبد الشكور وابن المرتضى وغيرهم (3) ، وقال الباقلاني : « إنّ الرواية شاذّة ومولّدة » (4) واستدلّوا على الوضع في هاتين الروايتين بما روي من قراءة عاصم عن زرّ ابن حبيش عن عبدالله بن مسعود ، وفيها الفاتحة والمعوذتين ، فلو كان
__________________
(1) مسند أحمد 5 : 129 ، الآثار 1 : 33 ، التفسير الكبير 1 : 213 ، مناهل العرفان 1 : 268 ، الفقه على المذاهب الأربعة 4 : 258 ، مجمع الزوائد 7 : 149.
(2) الجامع لاحكام القرآن 20 : 251 ، الفهرست لابن النديم : 29 ، المحاضرات 2 : 4 / 434 ، البحر الزخّار 249.
(3) التفسير الكبير 1 : 213 ، فواتح الرحموت بهامش المستصفى 2 : 9 ، الاتقان 1 : 79 ، البحر الزخّار 2 : 249 ، المحلّى 1 : 13.
(4) اعجاز القرآن بهامش الاتقان 2 : 194.


ينكر كون هذه السور من القرآن ، لما قرأهما لزر بن حبيش ، وطريق القراءة صحيح عند العلماء (1).
وقيل : إنّ ابن مسعود أسقط المعوذتين من مصحفه إنكاراً لكتابتهما ، لا جحداً لكونها قرآناً يُتلى ، أو لأنّه سمع النبي 6 يعوّذ بهما الحسن والحسين 8 ، فظنّ أنّهما ليستا من القرآن ، فلمّا تبيّن له قرآنيتهما بعدُ ، وتمَّ التواتر ، وانعقد الاجماع على ذلك ، كان في مقدمة من آمن بأنّهما من القرآن فقرأهما لزرّ بن حبيش ، وأخذهما عاصم عن زرّ (2).
__________________
(1) أُنظر البرهان للزركشي 2 : 128 ، شرح الشفاء للقاري 2 : 315 ، فواتح الرحموت 2 : 9 ، مناهل العرفان 1 : 269 ، المحلى 1 : 13.
(2) شرح الشفاء 2 : 315 ، مناهل العرفان 1 : 269.


المتحصّل من جميع الروايات الواردة في جمع القرآن أنّ مراحل الجمع ثلاث :
الأولى : بحضرة النبي 6 حفظاً وكتابةً ، حيثُ حُفِظ في الصدور ، وكُتِب على السطور في قراطيس وألواح من الرقاع والعسب واللخاف والاكتاف وغيرها. أخرج الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين ، عن زيد بن ثابت ، قال : « كنّا عند رسول الله 6 نؤلّف ـ أي : نكتب ـ القرآن من الرقاع » (1).
الثانية : على عهد أبي بكر ، وذلك بانتساخه من العسب والرقاع وصدور الرجال وجعله في مصحفٍ واحد.
الثالثة : ترتيب السور على عهد عثمان بن عفّان ، وحمل الناس على قراءة واحدة ، وكتب منه عدّة مصاحف أرسلها إلى الأمصار ، وأحرق باقي المصاحف.
__________________
(1) المستدرك 2 : 611.



إنّ موضوع جمع القرآن من الموضوعات التي أُثيرت حولها الشبهات ، ودُسَّت فيها الروايات ، وتذرّع بها القائلون بالتحريف فزعموا أنّ في القرآن تحريفاً وتغييراً ، وأنّ كيفية جمعه بعد رسول الله 6 مستلزمةٌ في العادة لوقوع هذا التحريف والتغيير فيه ، حيثُ إنّ العادة تقتضي فوات شيءٍ منه على المتصدّي لذلك إذا كان غير معصوم.
قال الرافعي : « ذهب جماعة من أهل الكلام ممّن لا صناعة لهم إلاّ الظنّ والتأويل واستخراج الأساليب الجدلية من كلِّ حكمٍ ومن كلِّ قول إلى جواز أن يكون قد سقط عنهم من القرآن شيءٌ حملاً على ما وصفوه من كيفية جمعه » (1).
إنّ امتداد زمان جمع القرآن إلى ما بعد حروب اليمامة ، كما نطقت به الروايات ، وتضارب الأخبار الواصفة لطريقة جمعه ، أثارا الشبهة لدى الكثيرين ، فعن الثوري أنّه قال : « بلغنا أنّ أُناساً من أصحاب النبي 6 كانوا يقرأون القرآن ، أُصيبوا يوم مسيلمة ، فذهبت حروف من القرآن » (2).
إنّ حقيقة جمع القرآن في عهد الرسول الأكرم 6 تُعدّ من الحقائق التاريخية الناصعة ، التي لا تحتاج إلى مزيد من البحث والاستقصاء وإثارة الشبهات ، وتعدّ أيضاً ضرورةً ثابتةً تاريخياً دامغةً لكلّ الأقاويل والشبهات ، ولكل ما دُسّ من الأخبار والروايات حول هذه المسألة.
__________________
(1) اعجاز القرآن : 41.
(2) الدر المنثور 5 : 179.



أجمع علماء الإمامية على أنّ القرآن كان مجموعاً على عهد رسول الله 6 وأنّه 9 لم يترك دنياه إلى آخرته إلاّ بعد أن عارض ما في صدره بما في صدور الحفظة الذين كانوا كثرة ، وبما في مصاحف الذين جمعوا القرآن في عهده 6 ، وقد اعتُبِر ذلك بحكم ما علم ضرورة ، ويوافقهم عليه جمعٌ كبيرٌ من علماء أهل السنة ، وجميع الشواهد والأدلة والروايات قائمةٌ على ذلك ، واليك بعضها :
1 ـ اهتمام النبي 6 والصحابة بحفظ القرآن وتعليمه وقراءته وتلاوة آياته بمجرد نزولها ، وممّا روي من الحثّ على حفظه ، قوله 6 : « من قرأ القرآن حتى يستظهره ويحفظه ، أدخله الله الجنّة ، وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت لهم النار » (1) وفي هذا المعنى وحول تعليم القرآن أحاديث لا تحصى كثرة ، فعن عبادة بن الصامت قال : « كان الرجل إذا هاجره دفعه النبي 6 إلى رجلٍ منّا يعلّمه القرآن ، وكان لمسجد رسول الله ضجّة بتلاوة القرآن حتى أمرهم رسول الله 6 أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا » (2).
وقد ازداد عدد حُفّاظ القرآن بشكل ملحوظ لتوفر الدواعي لحفظه ،
__________________
(1) مجمع البيان 1 : 85.
(2) مناهل العرفان 1 : 234 ، مسند أحمد 5 : 324 ، تاريخ القرآن للصغير : 80 ، مباحث في علوم القرآن : 121 ، حياة الصحابة 3 : 260 ، مستدرك الحاكم 3 : 356.


ولما فيه من الحثّ من لدن رسول الله 6 والأجر والثواب الذي يستحقّه الحافظ عند الله تعالى ، والمنزلة الكبيرة والمكانة المرموقة التي يتمتّع بها بين الناس ، وحسبك ما يقال عن كثرتهم على عهد الرسول 6 وبعد عهده أن قُتِل منهم سبعون في غزوة بئر معونة خلال حياته 6 ، وقُتل أربعمائة ـ وقيل : سبعمائة ـ منهم في حروب اليمامة عقيب وفاته 6 ، وحسبك من كثرتهم أيضاً أنّه كان منهم سيّدة ، وهي أمُّ ورقة بنت عبدالله ابن الحارث ، وكان رسول الله 6 يزورها ويسمّيها الشهيدة ، وقد أمرها رسول الله 6 أن تؤمّ أهل دارها (1).
أمّا حفظ بعض السور فقد كان مشهوراً ورائجاً بين المسلمين ، وكلّ قطعةٍ كان يحفظها جماعة كبيرة أقلّهم بالغون حدّ التواتر ، وقلّ أن يخلو من ذلك رجلٌ أو أمرأةٌ منهم ، وقد اشتدّ اهتمامهم بالحفظ حتى إنّ المسلمة قد تجعل مهرها تعليم سورة من القرآن أو أكثر.
2 ـ لا يرتاب أحدٌ أنّه كان من حول الرسول الأكرم 6 كُتّاب يكتبون ما يملي عليهم من لسان الوحي ، وكان 6 قد رتّبهم لذلك ، روى الحاكم بسندٍ صحيح عن زيد بن ثابت ، قال : « كنّا عند رسول الله 6 نؤلّف القرآن من الرقاع » (2).
وقد نصّ المؤرخون على أسماء كُتّاب الوحي ، وأنهاهم البعض إلى اثنين وأربعين رجلاً ، وكان 6 كلّما نزل شيءٌ من القرآن أمر بكتابته لساعته ، روى البراء : أنّه عند نزول قوله تعالى : ( لا يستوي القاعدون من
__________________
(1) الاتقان 1 : 250.
(2) المستدرك 2 : 611.


المؤمنين ) ( النساء 4 : 95 ) قال رسول الله 9 : « ادعُ لي زيداً ، وقُل يجيء بالكتف والدواة واللّوح ، ثمّ قال : اكتب ( لا يستوي ... ) » (1).
وكان 6 يشرف بنفسه مباشرة على ما يُكْتَب ويراقبه ويصحّحه بمجرد نزول الوحي ، روي عن زيد بن ثابت قال : « كنتُ أكتب الوحي لرسول الله 6 ، وكان إذا نزل عليه الوحي أخَذَتْهُ برحاء شديدة ... فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة ، فأكتب وهو يُملي عليّ ، فإذا فرغت قال : « اقرأه » ، فأقرؤه ، فإن كان فيه سقط أقامه ، ثمّ أخرج إلى الناس » (2).
أمّا في مفرّقات الآيات فقد روي عن ابن عباس ، قال : « إنّ رسول الله 6 كان إذا نزل عليه الشيء دعا من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا » (3) وذلك منتهى الدقّة والضبط والكمال.
3 ـ روي في أحاديث صحيحة « أنّ جبرئيل كان يعارض رسول الله 6 القرآن في شهر رمضان ، في كلِّ عامٍ مرّة ، وأنّه عارضه عام وفاته مرّتين » (4) وكان رسول الله 6 يعرض ما في صدره على ما في صدور الحفظة الذين كانوا كثرة ، وكان أصحاب المصاحف منهم يعرضون القرآن
__________________
(1) كنز العمال 2 : حديث 4340.
(2) مجمع الزوائد 1 : 152.
(3) المستدرك 2 : 222 ، الجامع الصحيح للترمذي 5 : 272 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 43 ، البرهان للزركشي 1 : 304 ، مسند أحمد 1 : 57 و 69 ، تفسير القرطبي 1 : 60.
(4) كنز العمال 12 : حديث 34214 ، مجمع الزوائد 9 : 23 ، صحيح البخاري 6 : 319.


على النبي 6 ، فعن الذهبي : « أنّ الذين عرضوا القرآن على النبي 6 سبعة : عثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وعبدالله بن مسعود ، وأُبي ابن كعب ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى الأشعري ، وأبو الدرداء » (1).
وعن ابن قتيبة : « أنّ العرضة الأخيرة كانت على مصحف زيد بن ثابت » (2) ، وفي رواية ابن عبدالبرّ عن أبي ظبيان : « أنّ العرضة الأخيرة كانت على مصحف عبدالله بن مسعود » (3).
4 ـ وفي عديد من الروايات أنّ الصحابة كانوا يختمون القرآن من أوله إلى آخره ، وكان الرسول 6 قد شرّع لهم أحكاماً في ذلك ، وكان يحثّهم على ختمه ، فقد روي عنه 6 أنّه قال : « إنّ لصاحب القرآن عند كلِّ ختم دعوةً مستجابةٍ » (4). وعنه 6 قال : « من قرأ القرآن في سبعٍ فذلك عمل المقربين ، ومن قرأه في خمسٍ فذلك عمل الصدّيقين » (5). وعنه 6 قال : « من شهد فاتحة الكتاب حين يستفتح كان كمن شهد فتحاً في سبيل الله ، ومن شهد خاتمته حين يختمه كان كمن شهد الغنائم » (6).
ومعنى ذلك أنّ القرآن كان مجموعاً معروفاً أوّله من آخره على عهد
__________________
(1) البرهان للزركشي 1 : 306.
(2) المعارف : 260.
(3) الاستيعاب 3 : 992.
(4) كنز العمال 1 : 513 حديث 2280.
(5) كنز العمال 1 : 538 حديث 2417.
(6) كنز العمال 1 : 524 حديث 2430.


رسول الله 6 ، فعن محمد بن كعب القرظي ، قال : « كان ممّن يختم القرآن ورسول الله 6 حيّ : عثمان ، وعليّ ، وعبدالله بن مسعود » (1).
وقال الطبرسي : « إنّ جماعة من الصحابة مثل عبدالله بن مسعود وأُبي ابن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ 6 عدّة ختمات » (2).
وروي عنه 6 « أنّه قد أمر عبدالله بن عمرو بن العاص بأن يختم القرآن في كلِّ سبع ليالٍ ـ أو ثلاث ـ مرّة ، وقد كان يختمه في كل ليلة » (3). وأمر النبيّ 6 سعد بن المنذر أن يقرأ القرآن في ثلاث ، فكان يقرؤه كذلك حتى تُوفي (4).
5 ـ كان الصحابة يدوّنون القرآن في صحف وقراطيس ولا يكتفون بالحفظ والتلاوة ، فلعلك قرأت ما روي في إسلام عمر بن الخطّاب « أنّ رجلاً من قريش قال له : اختك قد صبأت ؛ أي خرجت عن دينك ، فرجع إلى اخته ودخل عليها بيتها ، ولطمها لطمة شجّ بها وجهها ، فلمّا سكت عنه الغضب نظر فإذا صحيفةٌ في ناحية البيت ، فيها ( بسم الله الرحمن الرحيم * سبّح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ... ) ( الحديد 57 : 1 ) واطّلع على صحيفة أُخرى فوجد فيها ( بسم الله الرحمن الرحيم * طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ... ) ( طه 20 : 1 ) فأسلم بعدما وجد نفسه
__________________
(1) الجامع لأحكام القرآن 1 : 58.
(2) مجمع البيان 1 : 84.
(3) سنن الدارمي 2 : 471 ، سنن أبي داود 2 : 54 ، الجامع الصحيح للترمذي 5 : 196 ،  مسند أحمد 2 : 163.
(4) مجمع الزوائد 7 : 171.


بين يدي كلامٍ معجزٍ ليس من قول البشر » (1) ، وهذا يدلّ على أنهم كانوا يكتبون بإملاء الرسول 6 وأن هذا المكتوب كان يتناقله الناس.
6 ـ جمع القرآن طائفة من الصحابة على عهد رسول الله 6 ، هم أربعة على ما في رواية عبدالله بن عمرو ، وأنس بن مالك (2) ، وقيل : خمسة كما في رواية محمد بن كعب القرظي (3) ، وقيل : ستة كما في رواية الشعبي (4) ، وكذا عدّهم ابن حبيب في ( المحبّر ) (5) ، وأنهاهم ابن النديم في ( الفهرست ) إلى سبعة (6) ، وليس المراد من الجمع هنا الحفظ ، لأنّ حفّاظ القرآن على عهد رسول الله 6 كانوا أكثر من أن تُحصى أسماؤهم في أربعة أو سبعة ، كما تقدّم بيانه في الدليل الأول ، وفيما يلي قائمة بأسماء جُمّاع القرآن على عهد رسول الله 6 وهي حصيلةٌ من جميع الروايات الواردة بهذا الشأن ؛ وهم :
1 ـ أُبي بن كعب. 2 ـ أبو أيوب الأنصاري. 3 ـ تميم الداري. 4 ـ أبو الدرداء. 5 ـ أبو زيد ثابت بن زيد بن النعمان. 6 ـ زيد بن ثابت. 7 ـ سالم
__________________
(1) الموسوعة القرآنية 1 : 352.
(2) مناهل العرفان 1 : 236 ، الجامع لأحكام القرآن 1 : 56 ، أُسد الغابة 4 : 216 ، الجامع الصحيح 5 : 666.
(3) طبقات ابن سعد 2 : قسم 2 / 113 ، فتح الباري 9 : 48 ، مناهل العرفان 1 : 237 ، حياة الصحابة 3 : 221.
(4) طبقات ابن سعد 2 : قسم 2 / 112 ، البرهان للزركشي 1 : 305 ، الاصابة 2 : 50 ، مجمع الزوائد 9 : 312.
(5) المحبر : 286.
(6) الفهرست : 41.


مولى أبي حذيفة. 8 ـ سعيد بن عبيد بن النعمان ، وفي الفهرست : سعد. 9 ـ عبادة بن الصامت. 10 ـ عبدالله بن عمرو بن العاص. 11 ـ عبدالله بن مسعود. 12 ـ عبيد بن معاوية بن زيد. 13 ـ عثمان بن عفان. 14 ـ عليّ بن أبي طالب. 15 ـ قيس بن السكن. 16 ـ قيس بن أبي صعصعة بن زيد الانصاري. 17 ـ مجمع بن جارية. 18 ـ معاذ بن جبل بن أوس. 19 ـ أُمّ ورقة بنت عبدالله بن الحارث ، وبعض هؤلاء كان لهم مصاحف مشهورة كعليّ 7 وعبدالله بن مسعود.
7 ـ إطلاق لفظ الكتاب على القرآن الكريم في كثيرٍ من آياته الكريمة ، ولا يصحّ إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور ، بل لابدّ أن يكون مكتوباً مجموعاً ، وكذا ورد في الحديث عن النبي 6 : « إنّي تاركٌ فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي » (1) ، وهو دليلٌ على أنّه 6 قد تركه مكتوباً في السطور على هيئة كتاب.
8 ـ تفيد طائفة من الأحاديث أنّ المصاحف كانت موجودة على عهد رسول الله 6 عند الصحابة ، بعضها تامّ وبعضها ناقص ، وكانوا يقرأونها ويتداولونها ، وقرر لها الرسول الأكرم 6 طائفةً من الأحكام ، منها :
عن أوس الثقفي ، قال رسول الله 6 : « قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة ، وقراءته في المصحف تضاعف على ذلك ألفي درجة » (2).
__________________
(1) صحيح مسلم 4 : 1873 ، سنن الترمذي 5 : 662 ، سنن الدارمي 2 : 431 ، مسند أحمد 4 : 367 و 371 و 5 : 182 ، المستدرك 3 : 148.
(2) مجمع الزوائد 7 : 165 ، البرهان للزركشي 1 : 545.


وعن عائشة ، عن رسول الله 6 قال : « النظر في المصحف عبادة » (1).
وعن ابن مسعود ، عن رسول الله 6 قال : « أديموا النظر في المصحف » (2).
وعن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله 6 : « أعطوا أعينكم حظّها من العبادة ، قالوا : وما حظّها من العبادة ، يا رسول الله ؟ قال : النظر في المصحف ، والتفكّر فيه ، والاعتبار عند عجائبه » (3).
وقال 6 : « أفضل عبادة أُمّتي تلاوة القرآن نظراً » (4).
وقال 6 : « من قرأ القرآن نظراً مُتّع ببصره ما دام في الدنيا » (5). وكلّ هذه الروايات تدلّ على أنّ إطلاق لفظ المصحف على الكتاب الكريم لم يكن متأخّراً إلى زمان الخلفاء ، كما صرحت به بعض الروايات ، بل كان القرآن مجموعاً في مصحف منذ عهد الرسول 6.
ونزيد على ما تقدّم أنّ رسول الله 6 كان لديه مصحف أيضاً ، ففي حديث عثمان بن أبي العاص حين جاء وفد ثقيف إلى النبي 6 قال عثمان : « فدخلتُ على رسول الله 6 فسألته مصحفاً كان عنده
__________________
(1) البرهان للزركشي 1 : 546.
(2) مجمع الزوائد 7 : 171.
(3) كنز العمال 1 : حديث 2262.
(4) كنز العمال 1 : حديث 2265 و 2358 و 2359.
(5) كنز العمال 1 : حديث 2407.


فأعطانيه » (1) ، بل وترك رسول الله 6 مصحفاً في بيته خلف فراشه ـ لا حسبما صرحت به بعض الروايات ـ مكتوباً في العسب والحرير والأكتاف ، وقد أمر عليّاً 7 بأخذه وجمعه ، قال الإمام عليّ 7 : « آليت بيمينٍ أن لا أرتدي برداء إلاّ إلى الصلاة حتّى أجمعه » (2). فجمعه 7 ، وكان مشتملاً على التنزيل والتأويل ، ومرتّباً وفق النزول على ما مضى بيانه.
وجميع ما تقدّم أدلّةٌ قاطعة وبراهين ساطعة على أنّ القرآن قد كتب كله على عهد النبي 6 تدويناً في السطور علاوة على حفظه في الصدور ، وكان له أوّل وآخر ، وكان الرسول 6 يشرف بنفسه على وضع كلّ شيءٍ في المكان الذي ينبغي أن يكون فيه ، إذن فكيف يمكن أن يقال إنّ جمع القرآن قد تأخّر إلى زمان خلافة أبي بكر ، وإنّه احتاج إلى شهادة شاهدين يشهدان أنّهما سمعاه من رسول الله 6 ؟
__________________
(1) مجمع الزوائد 9 : 371 ، حياة الصحابة 3 : 244.
(2) كنز العمال 2 : حديث 4792.




تتضارب الأخبار حول جمع القرآن في هذه المرحلة حتى تكاد أن تكون متكاذبة ، وفيما يلي نورد بعضها لنبيّن مدى تناقضها ومخالفتها للأدلة التي ذكرناها آنفاً :
1 ـ عن زيد بن ثابت ، قال : « أرسل إليِّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة ، فإذا عمر بن الخطاب عنده ، فقال أبو بكر : إنّ عمر أتاني ، فقال : إنّ القتل استمرّ بقُرّاء القرآن ، وإنّي أخشى أن يستمرّ القتل بالقُرّاء في المواطن ، فيذهب كثيرٌ من القرآن ، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن ، فقلت لعمر : كيف تفعل شيئاً لم يفعله رسول الله 6 ؟ قال عمر : هو والله خير. فلم يزل يراجعني حتّى شرح الله صدري لذلك ، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد : قال أبو بكر : إنّك شابّ عاقل ، لا نتّهمك ، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله 6 فتتبّع القرآن فاجمعه ـ فو الله لو كلّفوني نقل جبلٍ من الجبال ما كان أثقل عليَّ ممّا أمرني به من جمع القرآن ـ قلت : كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله 6 ؟ قال : هو والله خير. فلم يزل أبو بكر يراجعني حتّى شرح الله صدري للذي شرح به صدر أبي بكر وعمر. فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال ، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري ، لم أجدها مع غيره ( لقد جاءكم رسول ... ) حتّى خاتمة براءة ، فكانت الصحف عند أبي بكر حتّى توفّاه الله ، ثمّ عند عمر حياته ، ثمّ عند حفصة بنت عمر » (1).
__________________
(1) صحيح البخاري 6 : 314 / 8.


2 ـ وعن زيد بن ثابت أيضاً ، قال : « قُبِضَ رسول الله 6 ولم يكن القرآن جمع في شيء » (1).
3 ـ ورُوي « أنّ أوّل من سمّى المصحف مصحفاً حين جمعه ورتّبه أبو بكر ـ وفي رواية : سالم مولى أبي حذيفة (2) ـ وكان مفرّقاً في الأكتاف والرقاع. فقال لأصحابه : التمسوا له اسماً. فقال بعضهم : سمّوه إنجيلاً ، فكرهوه. وقال بعضهم : سمّوه السفر ، فكرهوه من يهود. فقال عبدالله بن مسعود : رأيتُ للحبشة كتاباً يدعونه المصحف ، فسمّوه به » (3).
4 ـ وعن محمد بن سيرين : « قُتِل عمر ولم يجمع القرآن » (4).
5 ـ وعن الحسن : « أنّ عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله ، فقيل : كانت مع فلان ، فقُتِل يوم اليمامة ، فقال : إنّا لله ، وأمر بالقرآن فجمع ، فكان أوّل من جمعه في المصحف » (5).
هذه طائفةٌ من الروايات الواردة بهذا الخصوص ، والملاحظ أنّ شبهة القول بالتحريف التي ذكرناها في أوّل بحث جمع القرآن مبتنيةٌ على فرض صحّة أمثال هذه الروايات الواردة في كيفية جمع القرآن ، والملاحظ أنّه
__________________
(1) الاتقان 1 : 202.
(2) الاتقان 1 : 205.
(3) مستدرك الحاكم 3 : 656 ، تهذيب تاريخ دمشق 4 : 69 ، محاضرات الادباء مجلد 2 ج 4 ص 433 ، فتح الباري 9 : 13 ، تاريخ الخلفاء : 77 ، مآثر الانافة 1 : 85 ، البرهان للزركشي 1 : 281 ، التمهيد في علوم القرآن 1 : 246 ، المصاحف : 11 ـ 14.
(4) طبقات ابن سعد 3 : 211 ، تاريخ الخلفاء : 44.
(5) الاتقان 1 : 204.


لا يمكن الاعتماد على شيءٍ منها ، وقد اعترف محمد أبو زهرة بوجود رواياتٍ مدسوسةٍ فيها ، والقارىء لهذه الروايات وسواها يتلمّس نقاط ضعفها على الوجه التالي :
1 ـ اضطراب هذه الروايات وتناقضها ، فصريح بعضها أنّ جمع القرآن في مصحف كان في زمان أبي بكر ، والكاتب زيد ، وأنّ آخر براءة لم توجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت ، فقال أبو بكر : « اكتبوها ، فإنّ رسول الله قد جعل شهادته بشهادة رجلين » (1) ، وظاهر بعض هذه الروايات أنّ الجمع كان في زمان عمر ، وأنّ الآتي بالآيتين خزيمة بن ثابت ، والشاهد معه عثمان ، وفي حديث آخر : « جاء رجلٌ من الأنصار وقال عمر : لا أسألك عليها بيّنة أبداً ، كذلك كان رسول الله 6 » (2). وفي غيره : فقال زيد : من يشهد معك ؟ قال خزيمة : لا والله ما أدري. فقال عمر : أنا أشهد معه » (3). وظاهر بعض هذه الروايات أيضاً أنّ الجمع تأخّر إلى زمان عثمان بن عفان.
واضطربت الروايات في الذي تصدّى لمهمّة جمع القرآن زمن أبي بكر ، ففي بعضها أنّه زيد بن ثابت ، وفي أُخرى أنّه أبو بكر نفسه وإنّما طلب من زيد أن ينظر فيما جمعه من الكتب ، ويظهر من غيرها أنّ المتصدّي هو زيد وعمر ، وفي أُخرى أن نافع بن ظريب هو الذي كتب المصاحف لعمر » (4).
__________________
(1) الاتقان 1 : 206.
(2) كنز العمال 2 : ح 4397.
(3) كنز العمال 2 : ح 4764.
(4) أُنظر منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 2 : 43 ـ 52 ، وأُسد الغابة : ترجمة نافع بن ظريب.


2 ـ لا تصحّ الرواية الثالثة ؛ لأنّ المصاحف واستحداث لفظها لم يكن في زمان أبي بكر ، بل هي موجودة منذ زمان الرسول 6 ، واستخدمت هذه المفردة لهذا المعنى ، وهو القرآن الذي بين الدفّتين ، منذ فجر الرسالة كما تقدّم بيانه ، وتقول هذه الرواية أنّ كلمة ( مصحف ) حبشيّة ، بل هي عربية أصيلة ، ولسان الحبشة لم يكن عربياً ، ثمّ إنّهم لماذا تحيّروا في تسمية كتاب الله وهو تعالى سمّاه في محكم التنزيل قرآناً وفرقاناً وكتاباً.
3 ـ الملاحظ أنّ هذه الروايات تؤكّد على أنّ جمع القرآن كان بعد وفاة رسول الله 6 وقد تقدّم بطلان ذلك ؛ لأنّه كان مؤلّفاً مجموعاً على عهده 6 يقرأ بالمصاحف ويختم ، وكان له كُتّاب مخصوصون يتولون كتابته وتأليفه بحضرة الرسول 6 وهو يشرف على أعمالهم بنفسه ، وكان لدى الصحابة مصاحف كثيرة شُرّعت فيها بعض السنن ، وكانوا يعرضون على الرسول 6 ما عندهم باستمرار ، وكان كثير من الصحابة قد جمعوا القرآن في حياته 6.
4 ـ هذه الروايات مخالفة لما أجمع عليه المسلمون قاطبةً من أنّ القرآن لا طريق لإثباته إلاّ التواتر ، فإنّها تقول إنّ إثبات بعض آيات القرآن حين الجمع كان منحصراً بشهادة شاهدين أو بشهادة رجلٍ واحدٍ ، ويلزم من هذا أن يثبت القرآن بخبر الواحد أيضاً ، وهي دعوى خطيرةٌ لا ريب في بطلانها ، إذ القطع بتواتر القرآن سببٌ للقطع بكذب هذه الروايات أجمع وبوجوب طرحها وإنكارها ؛ لأنّها تثبت القرآن بغير التواتر ، وقد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين ، فهذه الروايات باطلة ما دامت تخالف ما هو ثابت بالضرورة.


وإذا سلّمنا بصحة هذه الروايات ، فإننا لا نشك في أنّ جمع زيد بن ثابت للمصحف كان خاصّاً للخليفة ، لأنّه لا يملك مصحفاً تاماً ، لا لعموم المسلمين ، لأنّ الصحابة من ذوي المصاحف قد احتفظوا بمصاحفهم مع أنّها تختلف في ترتيبها عن المصحف الذي جمعه زيد ، وكان أهل الأمصار يقرأون بهذه المصاحف ، فلو كان هذا المصحف عاماً لكلِّ المسلمين لماذا أمر أبو بكر زيداً وعُمَرَ بجمعه من اللخاف والعسب وصدور الرجال ؟ وكان بإمكانه أخذه تاماً من عبدالله بن مسعود الذي كان يملي القرآن عن ظهر قلب في مسجد الكوفة ، والذي قال عنه الرسول 6 : « إذا أردتم أن تأخذوا القرآن رطباً كما أُنزل ، فخذوه من ابن أُمّ عبد ـ أي من عبدالله بن مسعود ـ » (1) .. والذي يروي عنه أنّه قال عندما طلب منه تسليم مصحفه أيام عثمان : « أخذت من في رسول الله 6 سبعين سورة ، وإنّ زيد بن ثابت لذو ذؤابة يلعب مع الغلمان » (2) .. وبإمكانه أن يأخذه تامّاً من الإمام عليّ 7 الذي استودعه رسول الله 6 القرآن ، وطلب منه جمعه عقيب وفاته 6 ، فجمعه وجاء به إليهم ، فلم يقبلوه منه (3) ، وما من آيةٍ إلاّ وهي عنده بخطّ يده وإملاء رسول الله 6 ، قال أبو عبد الرحمن السلمي : « ما رأيت ابن أنثى أقرأ لكتاب الله تعالى من عليّ 7 » (4).
وبإمكانه أن يأخذه من أُبي بن كعب الذي قال فيه رسول الله 6 :
__________________
(1) مستدرك الحاكم 3 : 318 ، مجمع الزوائد 9 : 287 ، مسند أحمد 1 : 445.
(2) الاستيعاب 3 : 993.
(3) الاحتجاج 1 : 383 ، البحار 92 : 40.
(4) الغدير 6 : 308 عن مفتاح السعادة 1 : 351 ، وطبقات القراء 1 : 546.


« أقرأهم أُبي بن كعب ». أو قال : « أقرأ أُمّتي أُبي بن كعب » (1). أو يأخذه من الأربعة الذين أمر النبي 6 الناس بأخذ القرآن عنهم ، وهم : عبدالله بن مسعود ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وأُبي بن كعب ، ومعاذ بن جبل (2) ، وكانوا أحياءً عند الجمع ، أو يأخذه من ابن عباس حبر الاَُمّة وترجمان القرآن بلا خلاف.
ولو سلّمنا أنّ جامع القرآن في مصحف هو أبو بكر في أيام خلافته ، فلا ينبغي الشكّ في أنّ كيفية الجمع المذكورة بثبوت القرآن بشهادة شاهدين مكذوبةٌ ؛ لأنّ جمع القرآن كان مستنداً إلى التواتر بين المسلمين ، غاية الأمر أنّ الجامع قد دوّن في المصحف ما كان محفوظاً في الصدور على نحو التواتر.
__________________
(1) الاستيعاب 1 : 49 ، أُسد الغابة 1 : 49 ، الجامع الصحيح 5 : 665 ، الجامع لاحكام القرآن 1 : 82 ، مشكل الآثار 1 : 350.
(2) صحيح البخاري 5 : 117 / 294 ، مجمع الزوائد 9 : 311.


روى البخاري عن أنس : « أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان ، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق ، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة ، فقال لعثمان : أدرك الاَُمّة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل إلى حفصة : أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ، ثمّ نردّها إليك ؛ فأرسلت بها حفصة إلى عثمان ، فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن ، فأكتبوه بلسان قريش ، فإنّه إنما نزل بلسانهم ، ففعلوا ، حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة ، وأرسل إلى كلّ أُفقٍ بمصحف ممّا نسخوا ، وأمر بما سواه من القرآن في كلِّ صحيفةٍ ومصحفٍ أن يحرق. قال زيد : فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف ، قد كنتُ أسمع رسول الله 6 يقرأ بها ، فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) ( الاحزاب 33 : 23 ) فألحقناها في سورتها في المصحف » (1).
وهناك صور مختلفة وألفاظ شتّى لهذه الرواية ، والملاحظ عليها جميعاً :
__________________
(1) صحيح البخاري 6 : 315 / 9.


1 ـ كيف تفقد آية من سورة الأحزاب ، وقد اعتمد عين الصحف المودعة عند حفصة ، والكاتب في الزمانين هو زيد بن ثابت ؟ وقد كانت النسخة المعتمدة أصلاً كاملة إلاّ آخر براءة ـ كما تقدم ـ فهل كان الجمع الأوّل فاقداً لهذه الآية التي من الأحزاب ولسواها ؟ أم أنّهم لم يعتمدوا النسخة التي عند حفصة ؟ وهل ليس ثمة مصاحف وحفّاظ لهذه الآية إلاّ رجل واحد ؟! من هذه الرواية وسواها تسرب الشكّ وبرزت الشبهة للذين يحلو لهم القول بتحريف القرآن ، وقد رأيت أنّ مستندهم ضعيفٌ متهافتٌ لا يمكن الاعتماد عليه ، ولا أدري هل من قبيل المصادفة أنّ الآية تضيع في زمان أبي بكر وتوجد عند خزيمة بن ثابت ، وتضيع غيرها في زمان عثمان وتوجد عند خزيمة أيضاً ، فهل كان خزيمة معدوداً في الذين جمعوا القرآن ، أو الذين أمر رسول الله 6 بأخذ القرآن عنهم ؟
2 ـ هذه الرواية ومثيلاتها مضطربةٌ في تعيين من تولى الكتابة لمصحف عثمان ، وكذا الذي تولّى الإملاء ، فصريح بعض الروايات أنّ عثمان عيّن للكتابة زيداً وابن الزبير وسعيداً وعبدالرحمن ، وصريح بعضها الآخر أنّه عيّن زيداً للكتابة ، وسعيداً للإملاء ، وصريح بعضها أنّ المملي كان أُبي بن كعب ، وأنّ سعيداً كان يعرب ما كتبه زيد ، وفي بعضها أنّه عيّن رجلاً من ثقيف للكتابة ، وعين رجلاً من هذيل للإملاء ، وعن مجاهد : « أنّ المملي أُبي بن كعب ، والكاتب زيد بن ثابت ، والذي يعربه سعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث » (1).
3 ـ الملاحظ في جميع هذه الروايات ، وكذا في الرواية المذكورة آنفاً ،
__________________
(1) أُنظر منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 2 : 43 ـ 52.


أنّ زيد بن ثابت قد اعتمد رجلاً واحداً في الشهادة على الآية ، وهو أمر باطلٌ ، لأنّه مخالف لتواتر القرآن الثابت بالضرورة والاجماع بين المسلمين.
ونحن لا نريد التشكيك في أنّ عثمان قد أرسل عدّة مصاحف إلى الآفاق ، وقد جعل فيها عين القرآن المتواتر بين المسلمين إلى اليوم ، ولكنّنا نخالف كيفية الجمع التي وصفتها الأخبار ونكذّبها ، لأنّها تطعن بضرورة التواتر القاطع ، ولا يشكّ أحد أنّ القرآن كان مجموعاً ومكتوباً على عهد رسول الله 6 ومدوناً قبل عهد عثمان بزمنٍ طويل ، غاية مافي الأمر أنّ عثمان قد جمع الناس على قراءةٍ واحدةٍ ، وهي القراءة المتعارفة بينهم والمتواترة عن النبي 6 ومنعهم من سائر القراءات الاَُخرى التي توافق بعض لغات العرب ، وأحرق سائر المصاحف التي تخالف القراءة المتواترة ، وكتب إلى الاَمصار أن يحرقوا ما عندهم منها ، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة.
قال الحارث المحاسبي : « المشهور عند الناس أنّ جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك ، إنّما حمل عثمان الناس على القراءة بوجهٍ واحدٍ ، على اختيارٍ وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والانصار ، لمّا خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات » (1).
ولم ينتقد أحدٌ من المسلمين عثمان على جمعه المسلمين على قراءةٍ واحدةٍ ؛ لأنّ اختلاف القراءة يؤدّي إلى اختلاف بين المسلمين لا تحمد عقباه ، وإلى تمزيق صفوفهم وتفريق وحدتهم وتكفير بعضهم بعضاً ، غاية
__________________
(1) الاتقان 1 : 211.


ما قيل فيه هو إحراقه بقية المصاحف حتى سمّوه : حَرّاق المصاحف ، حيث أصرّ البعض على عدم تسليم مصاحفهم كابن مسعود.
وقد نقل في كتب أهل السنة تأييد أمير المؤمنين الامام عليّ 7 لما فعله عثمان من جمع المسلمين على قراءةٍ واحدةٍ ، حيث أخرج ابن أبي داود في ( المصاحف ) عن سويد بن غفلة قال : قال عليّ 2 : « لا تقولوا في عثمان إلاّ خيراً ، فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلاّ عن ملأ منّا ؛ قال : ما تقولون في هذه القراءة ؟ فقد بلغني أنّ بعضهم يقول : إنّ قراءتي خيرٌ من قراءتك ، وهذا يكاد يكون كفراً. قلنا : فما ترى ؟
قال : أرى أن يُجْمَع الناس على مصحف واحد ، فلا تكون خرقة ولا اختلاف . قلنا : فنعم ما رأيت » (1) !.
وروي أنّه 7 قال : « لو وليّت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان » (2).
وبعد تأييد أمير المؤمنين 7 وخيار الصحابة المعاصرين لهذا العمل ، بدأ التحوّل تدريجياً إلى المصاحف التي بعث بها عثمان إلى الآفاق ، فاحتلّت مكانها الطبيعي ، وأخذت بأزمّة القلوب ، وبدأت بقيّة المصاحف التي تخالفها في الترتيب أو التي كُتِب فيها التأويل والتفسير وبعض الحديث والدعاء تنحسر بمرور الأيام ، أو تصير طعمة للنار ، حتّى أصبحت أثراً بعد عين ، وحفظ القرآن العزيز عن أن يتطّرق إليه أيّ لبس.
__________________
(1) فتح الباري 9 : 15.
(2) البرهان للزركشي 1 : 302.


لقد تبيّن من ثنايا البحث أنّ جميع المزاعم التي تذرّع بها المتربصون بالإسلام للقول بتحريف القرآن الكريم والكيد بكتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذي تكفلت العناية الربانيّة بحفظه وصيانته ، قد ذهبت أدراج الرياح ، وما هي إلاّ كرمادٍ بقيعةٍ اشتدّت به الريح في يومٍ عاصفٍ ، من خلال الأدلة الحاسمة التي ذكرناها والتي تؤكّد عدم وقوع التحريف في الكتاب الكريم ، وأنّه بقي وسوف يبقى بإذن الله مصوناً من كلِّ ما يوجب الشكّ والريب.
فقد وقف علماء الشيعة وعلماء أهل السنة عموماً من روايات التحريف موقفاً سلبياً ، ورفضوا القول بمضمونها وفنّدوه بما لا مزيد عليه ، ورأوا في هذه الأخبار أنّها أخبار آحاد لا يمكن الاعتماد عليها في أمر يمسّ العقيدة التي لابدّ فيها من الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة ، ولا تكفي فيها الظنون ولا أخبار الآحاد. هذا بالاضافة إلى وجوه ضعف أُخرى تعاني منها هذه الأخبار ، سواء من حيث دلالتها ، أو من حيث ظروف صدورها ، أو من حيث مرامي وأهداف وتوجّهات من صدرت عنهم.
وفيما يلي نبين بعض أقوال علماء المسلمين التي تؤيد إجماع كلمة أهل الإسلام على نفي القول بوقوع التحريف في القرآن الكريم ، وهذه الأقوال وسواها تقطع الطريق أمام كلّ محاولات الأعداء المغرضين


والحاقدين ومن عداهم من السذّج والمغفّلين :
1 ـ الشيخ محمد محمد المدني عميد كلية الشريعة في الجامع الأزهر : « أما أنّ الإمامية يعتقدون نقص القرآن ، فمعاذ الله ، وإنّما هي روايات رويت في كتبهم ، كما روي مثلها في كتبنا ، وأهل التحقيق من الفريقين قد زيّفوها ، وبينوا بطلانها ، وليس في الشيعة الإمامية أو الزيدية من يعتقد ذلك ، كما أنّه ليس في السنة من يعتقده ، ويستطيع من شاء أن يرجع إلى مثل كتاب ( الاتقان ) للسيوطي السُنّي ليرى فيه أمثال هذه الروايات التي نضرب عنها صفحاً ، أفيقال إنّ أهل السنة ينكرون قداسة القرآن ، أو يعتقدون نقص القرآن لروايةٍ رواها فلان ، أو لكتابٍ ألّفه فلان » (1) ؟!.
2 ـ الإمام المحقق رحمة الله الهندي : « إنّ المذهب المحقّق عند علماء الفرقة الإمامية الأثني عشرية أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذلك ، وأنّه كان مجموعاً مؤلّفاً في عهده 6 وحَفَظه ونَقَله أُلوفٌ من الصحابة » (2).
3 ـ الدكتور محمد التيجاني السماوي : « لو جبنا بلاد المسلمين شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً وفي كل بقاع الدنيا ، فسوف نجد نفس القرآن بدون زيادة ولا نقصان ، وإن اختلف المسلمون إلى مذاهب وفرق وملل ونحل ، فالقرآن هو الحافز الوحيد الذي يجمعهم ، ولا يختلف فيه من الاَُمّة اثنان » (3).
__________________
(1) مجلة رسالة الإسلام ـ القاهرة السنة 11 العدد 44 ص 382 ـ 385.
(2) الفصول المهمة : 164 ـ 166.
(3) لأكون مع الصادقين 168 ـ 176.


4 ـ السيد عليّ الميلاني : « إنّ المعروف من مذهب أهل السنة هو نفي التحريف عن القرآن الشريف ، وبذلك صرّحوا في تفاسيرهم وكتبهم في علوم القرآن » (1).
5 ـ السيد جعفر مرتضى العاملي : « إنّنا لا يجب أن ننسى الجهد الذي بذله أهل السنة لتنزيه القرآن عن التحريف ، وحاولوا توجيه تلكم الأحاديث بمختلف الوجوه التي اهتدوا إليها » (2).
وغيرها من الشهادات الضافية التي لو ذكرناها جميعاً لطال بنا المقام ، وجميعها تؤكّد أنّه ليس من أمرٍ أتّفقت عليه كلمة المسلمين مثلما اتّفقت على تنزيه كتاب الله العزيز من كلِّ ما يثير الشكّ والريب قال تعالى : ( لايأتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَينِ يَديهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَميدٍ ) (3).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين
__________________
(1) التحقيق في نفي التحريف : 138.
(2) حقائق هامة : 34.
(3) فصلت 41 : 42.




المقدِّمة......................................................................... 7
معنى التحريف.................................................................. 9
أدلّة نفي التحريف............................................................ 13
الأئمة من علماء الشيعة ينفون التحريف...................................... 23
روايات التحريف............................................................. 33
ثلاث حقائق مهمّة !........................................................ 33
موقف علماء الشيعة من روايات التحريف.................................... 37
نماذج من روايات التحريف في كتب الشيعة................................... 39
شبهات وردود............................................................. 47
أهل السنة ينفون التحريف.................................................. 53
حقيقتان مهمّتان............................................................ 55
نماذج من روايات التحريف في كتب أهل السنة............................... 61
الطائفة الأولى : ما دلّ على التحريف بعمنى النقصان........................ 61
نسخ التلاوة............................................................... 71
الطائفة الثانية : ما دلّ على اللحن......................................... 75
الطائفة الثالثة : ما دلّ على الزيادة......................................... 80
مراحل جمع القرآن............................................................ 83
جمع القرآن وشبهة التحريف................................................. 85
أدلّة جمع القرآن في زمان الرسول 6......................................... 87
جمع القرآن في عهد أبي بكر وعمر........................................... 97
جمع القرآن في عهد عثمان................................................ 103
الخاتمة..................................................................... 107